الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

في معنى أن تكون "إيجابيا" في لبنان اليوم

غسان صليبي
في معنى أن تكون "إيجابيا" في لبنان اليوم
في معنى أن تكون "إيجابيا" في لبنان اليوم
A+ A-


النصيحة الشائعة اليوم، هي ان تبقى "إيجابيا" على رغم الصعوبات التي تواجهك، من كورونا الى الوضع المعيشي

الى الانهيار المالي.

لكن نصيحة، "كن إيجابيا"، ليست جديدة وليست لبنانية المنشأ، بل هي متداولة منذ سنوات في العالم أجمع، كوسيلة لتحسين الحياة الفردية، ومواجهة الصعوبات. وقد كثرت في الآونة الاخيرة الكتب التي تكلمت عن الموضوع، تحت عنوان Be Positive.

اصبح مؤكدا علميا، ان ما نفكر فيه او الطريقة التي ننظر فيها الى الاشياء، تؤثر في عمل خلايا الدماغ، التي تؤثر بدورها في صحتنا النفسية والجسدية.

المثل الذي يعطى عادة لتطبيق نصيحة "كن إيجابيا"، هو ان تنظر الى النصف الممتلئ من الكأس، اي الى ما هنالك من إيجابيات في حياتك، بدل التركيز على النصف الفارغ، اي الى ما هنالك من سلبيات.

مشكلة المثل ومحدوديته، انه يفترض ان ما هو ممتلئ من الكأس يساوي النصف، في حين ان الممتلئ منه، في الواقع وعند معظم الناس في لبنان، في زمن كورونا وما قبله، بالكاد يصل الى الربع، وهو الى تناقص مستمر.

لذلك تبدو النصيحة أكثر ملاءمة للفئات الميسورة او لتلك التي تنتمي الى الطبقة "المرتاحة" بشكل عام، والتي تمتلئ كأسها وتنقص، لكنها تُبقي توازناً بين ما هو ممتلئ وما هو فارغ.

يسهل، تاليًا، على هذه الفئات اتباع النصيحة، التي تكاد ان تكون بالنسبة إليها تحصيلا حاصلا، ولا تغير كثيرا في مجرى حياتها، التي تعودت ان تكون "يوما ازرق ويوما رماديا"، كما تقول اغنية فرنسية. هذه الفئات تستطيع ان تنبش من النصف الممتلئ، الكثير من الإيجابيات، تفكر فيها او تستثمرها في عيشها، متناسية سلبيات النصف الفارغ من الكأس.

الامر يختلف بالنسبة إلى الفئات الشعبية، الفقيرة او التي بالكاد تستطبع تأمين معيشتها. فهي سيصعب عليها فعلا ان تنظر الى الربع الممتلئ او ما دونه، في الوقت الذي يتناقص امام عيونها، يوما بعد يوم، في مسار انحداري ليس متوقعا ان يعدّل من إتجاهه مع مرور الزمن، كما في حالة الفئات الأخرى.

فليس سهلا ان تكون "إيجابيا" في ظل ظروف الحياة اليومية عند الفئات الشعبية: السكن الضيق الذي لا تستطيع فيه ان تجد فسحة مكان او زمان للتركيز على ما تبقى من إيجابيات في حياتك، فضلا عن تعب الاعصاب والقلق المستمر على المعيشة، اللذين يعطلان قدرتك على التركيز.

كان يمكن للحجر المنزلي ان يخلق فرصة لأخذ مسافة من الواقع الخارجي، والعودة الى الذات، وتحريك الطاقة الإيجابية التي نختزنها في دواخلنا. لكن الحجر المنزلي راح، على ما يبدو، يزيد الضغوط على الفرد، حيث بدأت ترتفع نسب العنف المنزلي في العالم وفي لبنان، وخاصة في البيئات الشعبية. واذا كان هذا العنف يمارسه الرجل في معظم الاحيان، الا ان حالات قتل الزوجات لأزواجهن ليست قليلة ولا سيما في المنطقة العربية.

تترافق الدعوات الى الحفاظ على "الإيجابية" في التعامل مع ظروفنا الصعبة، مع دعوات الى ممارسة الرياضة والأكل الصحي وتناول الفيتامينات، بغية صون المناعة النفسية والجسدية. هذه كلها، في متناول الفئات "المرتاحة" ماديا، وصعبة المنال للفئات التي تفتش عن لقمة عيشها.

نتيجة للدعوات التي أطلقت على مواقع التواصل الاجتماعي، ونصحت الملتزمين الحجر المنزلي بـ"الإيجابية" في التعامل مع واقعهم الصعب في زمن كورونا، لفتني ان الناس راحوا يعرضون صورا لهم من الماضي، كشكل من أشكال التصرف "الإيجابي". وهذا ما يعكس في اعتقادي، عجزا عن، او صعوبة في العثور على هذا "الإيجابي" في الاوقات التي يعيشون فيها.

يبقى ان لدى الفئات الشعبية إيجابيات يمكن التعويل عليها وهي ليست متوفرة بشكل عام لدى الفئات الميسورة. من علاقة الناس بالطبيعة، الى حرصهم على التواصل، الى سعيهم إلى التعاون على رغم شروط التباعد الاجتماعي.

كما ان هذه الـ"كتّر خير الله" التي يرددونها على الدوام، لا تقتصر وظيفتها النفسية على الاقتناع بما لديهم، على قلته، بل كأنها ردّهم "الإيجابي" على الظروف الصعبة التي تُقفَل فيها ابواب الخلاص الارضي.

""كن إيجابيا"، نصيحة تطلق عادة كدعوة الى الخلاص الفردي من أزمات فردية، وهي بهذا المعنى محدودة الفعالية، كدعوة للخلاص من ازمات مجتمعية. لا بل قد تؤدي الى تناسي الازمات المجتمعية من قبل من يطبقها، خاصة إذا نتج منها تقوقع على الذات وانشغال بهمومها.

لا بد بالطبع من العمل على تطوير الطاقة الفردية في مجال مواجهة الازمات، أكانت فردية أم جماعية. لكن هذه "النظرة الإيجابية" التي نريد تطويرها، لا يمكن ان تبقى فردية فحسب في مواجهة الازمات المجتمعية. فالخلاص هنا لا يمكن ان يكون الا جماعيا.

فعندما تخطر ببالك فكرة إيجابية، كأن تتخيل مثلا "كلن يعني كلن" في السجون بعدما ردوا اموالك التي سرقوها، فإن الحماسة والسعادة اللتين سوف تشعر بهما، واللتين سوف تحضّانك على متابعة نضالك من اجل تحقيق هذه الفكرة، لن تكونا على استمرارية وفعالية، اذا لم تترافقا مع فكرة انك ستقوم بذلك بمعية اخوات واخوان لك في الانتفاضة.

"الفكرة الإيجابية" لن تفعل فعلها في هذا النوع من الازمات، الا اذا تصورتها "فكرة جماعية" تشارك انت في صياغتها وفي تحقيقها.

وسيكون من المفيد لا بل من الضروري، في ظل تراجع الزخم وتشتت القوى، ان تنظم الانتفاضة لقاءات تحترم التباعد الاجتماعي، وتساعد الافراد على التفكير الإيجابي الفردي والجماعي كوسيلة للخروج من الاستكانة الحالية، من خلال تمارين، في التنفس والتأمل مثلا. ولا مانع من تنظيم هذه التمارين، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكن على ان يعي كل فرد انه على تواصل مع جميع افراد المجموعة، حفاظا على الدور التحفيزي لعامل الانتماء الى جماعة واحدة متضامنة.

اعتقد ان الفرصة متاحة اليوم أمام الانتفاضة للخروج من سلبية النظرة الى نفسها، من خلال وقف تشتت المجهودات وتأطيرها في إتجاه الضغط من اجل إيصال التحقيقات القضائية في شأن الفيول المغشوش الى خواتيمها العادلة. فهذه قضية قانونية محددة وواضحة بالنسبة للرأي العام، والمخالفات فيها مفضوحة وموثقة، والمتورطون فيها جزء كبير من السلطة الحاكمة حاليا. هذه العوامل مجتمعةً، تعطي القضية ابعادا ثلاثة، قضائية ومالية وسياسية. وهي بهذا المعنى ذات انعكاسات متعددة تطال اولويات الانتفاضة مجتمعة.

إن الانتفاضة بحاجة الى تحقيق انجاز ملموس حتى تتمكن من استعادة الثقة بنفسها ومواصلة حركتها التصاعدية. إن فكرة التركيز على قضية بحد ذاتها، وتوفر بعض الظروف لتحقيق انجاز في شأنها، هي بحد ذاتها فكرة ذات مضمون "إيجابي" تساهم في تحفيز المنتفضين وانتشالهم من حالة الأحباط والشعور بالعجز.

فلنهجس بهذه الفكرة الإيجابية إلى حين تحقّقها.

لعلها تكون فكرة "إيجابية" أيضا ان نتعود ان ننظر الى إبريق الماء كوسيلة شرب جماعية بدل النظر الى كأس الماء.

آنذاك، ربما، سيكون اسهل علينا ان ننظر الى القسم الممتلئ، الذي من المفترض ان يغطي نصف الابريق على الاقل، لان عليه ان يشفي غليل مجموعة من الافراد. ولا بد ان نجد في هذا النصف الممتلئ "إيجابية" نعمل على تغذيتها جماعيا.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم