" كابانشي" واحد فقط

مِن باب الإحتياط يجب تجنُّب مديحِ النظام اللبناني. كنّا نتباهى بديموقراطيته عند مقارنته بالأنظمة الشقيقة. لا بدّ أن يكون قد اختلط الأمرعلينا كَمِثلِ اختلاطِ الأمرِ على مَن يحضر حفلاً مقنّعاً. في مدينة البندقية الإيطاليَّة وقَبْل كورونا، كانت البلدية هناك تنظِّمُ كلَّ سنةٍ ومنذُ ألفِ سنةٍ تقريباً أَحدَ أكثرِ الكارنڤالاتِ المقنّعة شُهرَةً في العالم. ستّةُ أشهرٍ متتالية لم يكن يخلعُ أحدٌ خلالها قناعَه. وسط الهرجِ والمرجِ والموسيقى الصاخبة، كان يتعذّر التكهّن بهوية المدعوين إلا من خلال التفرّسِ بالأقنعة. سائقو الجوندول كانوا أيضاً  مقنَّعين. في كارنڤالات السياسة عندنا يبدو لنا قناعُ لبنان ديموقراطياً في الظّاهر. بعد انفضاضِ الحفلِ وخلوِّ المكان، بالإمكانِ تأمُّل وجهَ لبنان الحقيقي. الظلمُ والفسادُ يشكّلان قَسَمات وجهِه المُخيف.

استئصالُ فسادِ السياسةِ في لبنان أشبَهُ بجلسةِ طردِ أرواحٍ شريرة. على الكاهنِ أو الرُّوحانيّ أن يكونَ طاهراً ليتهيّبَ الشيطانُ الموقف. لا يمكن استئصال شيطانٍ بصلواتِ شيطانٍ آخر تماماً كما لا يمكن استئصال الفسادِ بجهودِ طبقةٍ سياسيةٍ فاسدة. القضاءُ على روحٍ شريرةٍ يستلزمُ رشَّ مياهٍ مُصَلّى عليها لا رشّ مياه آسِنة. الإصرارُعلى استكمالِ جلسةِ التطهيرِ بوسيطٍ روحانيّ فاسد، لن يُنتِجَ سوى هدم البيت فوق رؤوس قاطِنيه.

تبقى الدولةُ دولةً حتى تُصبِح مسكونةً بأرواحِ الفسادِ الشريرة. يجب عندها ربطُها بإحكامٍ حتى لا تؤذي نفسَها ومواطنيها. بالرغم من ذلك، ومع كلِّ الموبقات التي تستحقُّ أن تُنعَتَ بسببِها دولةً فاشلة، تبقى جيفَتُها قابلةً لإعادةِ التدوير إذا كان شعبُها صالحاً. عندما يَفسُدُ الشعبُ ويصيرُ نادلاً على موائدِ زعمائِه، يتحوّلُ إلى شريكٍ لظالميه في اقترافِ الظلم. لماذا التستّرُ عمّا نجيدُه أكثرَ من أي شَيْءٍ آخر؟ نحن شعبٌ يَرشو ويَرتَشي. حوَّلْنا الفسادَ في لبنان إلى اختصاص. إذهب إلى جونز هوبكنز تتعلّم الطب. إذهب إلى هارڤرد تتعلّم الفيزياء النووية. إذهب إلى لبنان تتعلّم الفساد.

17 تشرين كظاهرة كانت حركةَ تمرّدٍ على اختصاص لبنان. ينقصُها "توسان لوڤرتور"  و"جاك ديسالين". جنرالان قادا أكبرَ حركة تمرّد في التاريخ. عندما كانت محاكمُ الولايات المتحدة في أواخرِ القرن التاسع عشر تُصدِرُ أحكامَ صَلبٍ على السود لأنهم أرادوا التحرُّرَ مِن الأصفاد، كان هذان الجنرالان يُلغيان العبوديّةَ في تاهيتي. شعبُ لبنان برمّته مصلوبٌ وينتظرُ جنرالاً واحِداً يفكّ أسره.

الخديعة تُطيلُ من عمرِ الأقنعة. غالباً ما تُستَغَلُّ عبارات مثل "بيروت أم الشرائع" و"بعلبك مدينة الشمس" و"بيبلوس مصدِّرة الحَرف" كَذرائع للإقدام على أكثر الإرتكابات بربرية. الإتكالُ على السّمعَةِ الحَسنة ثم ارتكابُ الكبائر. بين أن تنتمي إلى وطنٍ موغلٍ في التاريخ يغتالُك كلَّ يومٍ وبينَ آخر حديث الولادة يهتمُّ بأطفالِكَ أيَّهُما تختار؟ حبُّ الوَطَن مرتَبِطٌ لامَحالَة بأخلاقِ الذينَ يتولّون إدارَة شؤونِه. ديكتاتور البيرو السابِق ألبِرتو فوجيموري اختارَ المَنفى الطّوعيَّ منذُ أكثَر مِن عشرينَ سَنَة بسبب فَضيحَة فَساد. انتعَشَت البيرو برَحيلِه. عشرات فوجيموري يملأونَ الإدارَة في بلدِنا. رحيلُهم جرعَةُ إصلاح.

نقتَرِفُ كلَّ يَومٍ بحَقّ بَلَدِنا جَريمَة. نقتُل انتماءَنا بِدَمٍ بارِد. يساعِدُنا الفَسادُ بالضّغطِ عَلى الزّناد. مَع كل انتماء مُضَرَّجٍ بالدّماء يَترُكُ القاتِلُ المتسلسلُ بِطاقَةً تُعرّفُ عنه: الولاءُ للزّعيم. أيّام أوغوستو بينوشيه في تشيلي كانَ الولاءُ يُفرَضُ بعملَةٍ صعبَة: التعذيب. كانَت مروحيّاتُ الدّيكتاتور تَرمي المعتَقَلين في البَحر مِن عَلى عُلوٍّ شاهِقٍ بعد نَحرِ بُطونِهِم. البطونُ المَفتوحَةُ تسرِّعُ غرقَ الأجسادِ في البَحر. الأجسادُ العائِمَةُ تقلِقُ منظّمات حقوق الإنسان. في لبنان نِظامٌ ديموقراطيٌ يتفرّجُ عَلى الحَوامِل تأكلُ مِن حاوياتِ الزّبالَة. يبدو بينوشيه بالمقارَنَة أقرَب إلى بادري بِيو.

كَسادٌ حَضاريٌّ وثقافيٌّ يصيبُ مواسِمَنا. مِن أعلَى الشّجرَة اللبنانيَّة حتّى أعمَق جذورِها. هذا يفسِّرُ تفشّي ثَقافَةَ الدّعارَةِ السياسيَّة واستِمرار الإفلات مِن العِقاب. هَزيمَةُ الفَسادِ المالي ممكِنَةٌ وليست التحدّي الأكبَر في لبنان. يجب إلحاقُ هَزيمَةٍ نَكراء بالفَسادِ الذهني. بعضُ الأفكارِ بِمثابَة غَرغَرينا للعُقول. خطرُها أعظمُ شأناً مِن فساد المال.

مستَحيلٌ أن تَبني هذه الدّولَةُ سجناً واحِداً. السّجونُ لا تستقبِلُ كِبارَ قَومِ الدّولَةِ في لبنان. مستحيلٌ أن تصبِحَ وراءَ القُضبان ووراؤك قضيبُ خَيزَرانٍ زاجِرٍ للقاضي يلوّحُ بِه الزّعيم. في زامبيا فَصَلَ الرئيس الزّامبي أخيراً وزير التنمية الإجتماعيَّة. التّهمَة إساءَةُ الأمانَة والإختلاس. إيميرين كابانشي مِن وَزير إلى مَشروع سَجين. كابانشي واحِد في لبنان لنصدِّق أننا نواكِب الشقيقَة زامبيا. كابانشي واحِد فقَط!