السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

هل من أمل في مواجهة الازمة من خلال تضامن إجتماعي على المستوى الوطني؟

المصدر: "النهار"
غسان صليبي
هل من أمل في مواجهة الازمة من خلال تضامن إجتماعي على المستوى الوطني؟
هل من أمل في مواجهة الازمة من خلال تضامن إجتماعي على المستوى الوطني؟
A+ A-

أثرتُ في مقال سابق نُشر في "النهار" أهمية مقاربة الازمة الاجتماعية الحالية من خلال عقد إجتماعي وطني ("نحو عقد إجتماعي وطني يعالج المشكلات الاجتماعية والعمل الهش؟"). المسألة مطروحة بإلحاح اليوم بعد البدء بمناقشة خطة الحكومة المالية، الاقتصادية والاجتماعية، وما تحمله من أعباء على كاهل أغلبية الشعب اللبناني الذي يراد له دفع ثمن سياسات السلطة التي أفلست البلد وجعلت نصف الشعب اللبناني ينوء تحت خط الفقر، مع ارتفاع كبير بنسبة البطالة، ووصول نسبة العاملين في القطاع غير الرسمي بعمل جزئي وبدون ضمانات أجتماعية، الى أكثر من 65%. وقد أشرت في مقالي المذكور أعلاه الى العوامل التي تدفع في اتجاه معالجة مسألة العمل الهش والبطالة وقضايا إجتماعيّة أخرى، في ظروف لبنان الحالية، من خلال عقد إجتماعي وطني.

المقصود بـ"العقد الاجتماعي" هو العقد الذي يطال الواقع الإجتماعي المعيشي تحديدًا. ويبدو ذلك إشكاليا في الحالة اللبنانية، إذ كيف تعقد مع سلطة لا تثق بها ولا تعترف بشرعية النظام الذي تحكم به، عقدأ اجتماعيأ وطنيأ؟

أقرّت تونس عقدًا إجتماعيًّا بين الدولة والعمّال وأصحاب العمل وبمساعدة منظمة العمل الدولية، في الفترة التي اعقبت الثورة التونسية التي اندلعت سنة 2010، أي بعد إتفاق سياسي أرسى عملية الإنتقال الديموقراطي. وقد تضمّن هذا العقد بنودًا متعدّدة حول الحقوق في العمل، وحول الاستخدام والحماية الإجتماعيّة، وكذلك حول المساواة بين الجنسين والحوار الإجتماعي الثلاثي. وهذا ما كان يجب ان يحصل لو نجحت الانتفاضة اللبنانية في تحقيق أهدافها.

قبل الدخول في تعقيدات الواقع اللبناني الحالي، دعونا نطرح بشكل عام إشكالية التضامن الاجتماعي في لبنان على المستوى الوطني.

فالوصول الى عقد إجتماعي على مستوى الوطن، يفترض توافر تضامن إجتماعي وطني. بدوره يفترض التضامن الإجتماعي الوطني المرور بمراحل تضامنية على الشكل الآتي:

- تضامن طبقي لكل من العمّال وأصحاب العمل عبر نقاباتهم.

- إرادة وطنية لدى جميع الاطراف المعنيين للوصول الى إتفاق.

- حوار إجتماعي يجسّد التضامن الوطني ويؤدّي الى عقد إجتماعي وطني في إطار مؤسسات الحوار الإجتماعي. يمكن لهذا الحواران يضم العمال وأصحاب العمل والدولة ولكن في الحالة اللبنانية، وبعد الإنتفاضة، من الضروري أيضًا تمثيل هيئات المجتمع المدني ولا سيما تلك المنخرطة في هذه الإنتفاضة.

فلنتفحص كل مرحلة من مراحل الحوار ونتلمّس العقبات أمام التضامن الإجتماعي.

التضامن بين العمّال وأصحاب العمل

بالنسبة للعمال، مؤشرات معوقات التضامن هي التالية:

- نسبة إنتساب متدنّية جدًّا (نحو 5%) على مستوى الحركة النقابية ككل وشبه معدومة في الكثير من القطاعات ولا سيما في القطاع غير الرسمي الذي بات يمثل نحو 65% من العاملين.

- هناك اسباب عديدة تضعف الانتساب: صغر حجم المؤسسات حيث يتعرض العاملون للصرف السهل اذا انتظموا في نقابات (اكثر من 90% لديهم ما دون الخمسة أجراء)، الإقتصاد الريعي الذي يفصل العلاقة بين العمل والأرباح، البطالة والحجم الكبير للعمالة الاجنبية وخاصة النازحة يضعف قدرة العمال على الضغط على أصحاب العمل، عدم ثقة العمّال بالنقابات العاجزة تاريخيا عن الدفاع عن حقوقهم. لكن هناك ايضًا البنية المذهبيّة والطائفيّة في البلد التي تغلّب المشاعر المذهبيةّ والتعاون المذهبي على التضامن الطبقي.

- أشكال التضامن النقابي تشكّل عقبة هي ايضًا، فنقابات المؤسسة تغلب على النقابات القطاعيّة. والإتحادات العامة والجغرافيّة (اكثر من نصف الاتحادات)، تغلب على الإتحادات القطاعيّة. والإتحادات ذات الصفة المذهبيّة (54%) تغلب على الإتحادات المختلفة مذهبيًّا. مع العلم ان الوصول الى التضامن العمّالي على المستوى الوطني لا بدّ ان يمر عبر التضامن القطاعي، المتعدد المذاهب.

- غياب الديموقراطية داخل الاتحاد العمالي العام بسبب نظامه الداخلي، يجعل التضامن هشا.

بالنسبة لأصحاب العمل هناك مشكلتان بارزتان:

- مشكلة طغيان غرف الصناعة والتجارة والزراعة على هيئات أصحاب العمل.

- تضارب المصالح بين الصناعيين والتجار وهيئاتها وصعوبة الاتفاق على سياسة واحدة مع رجحان تأثير التجار.

الإرادة الوطنية

هناك قاعدة ماديّة اقتصاديّة لتبلور الإرادة الوطنيّة الموحّدة، وهناك أيضًا قاعدة ايديولوجية أو فكرية. يميّز دوركهايم بين "التضامن الميكانيكي" و"التضامن العضوي". التضامن الميكانيكي هو التضامن في المجتمعات التقليدية، حيث الناس لا يختلف بعضهم عن بعض في قيمهم وأعمالهم، وتضامنم اساسه التشابه في ما بينهم. أما "التضامن العضوي" فهو التضامن على المستوى الوطني في المجتمعات الحديثة والقائم على تقسيم العمل، الذي يجعل الناس يؤدّون وظائف مختلفة لكن متكاملة. وهنا يكون التضامن على أساس التكامل والحاجة المتبادلة.

في المجتمع اللبناني يتنافس هذان النوعان من التضامن. التضامن العائلي والعشائري والمذهبي هو أقرب الى التضامن الميكانيكي والتضامن النقابي أو في أطر الحوار الإجتماعي هو أقرب الى التضامن العضوي.

هناك عاملان آخران يعيقان التضامن العضوي في لبنان. الأول هو تفكك الاقتصاد اللبناني بعد الحرب بحيث أصبح هناك إقتصاديات مناطقية شبه مستقلة مما يعيق الشعور بالتضامن العضوي على المستوى الوطني. اما العامل الثاني فهو وجود إقتصاديات موازية للإقتصاد اللبناني تتغذّى من أموال تأتي من الخارج لأطراف سياسيّين في لبنان. مما يجعل العاملين في إطار هذه الإقتصاديات لا يشعرون بأنهم في علاقة تضامن عضوي مع الآخرين الذين يعملون في إطار الاقتصاد الوطني.

إضافة الى هذه العوامل الماديّة – الإقتصاديّة التي تحول دون تبلور التضامن الوطني على مستوى البلد، هناك أيضًا عوامل ايديولوجية – فكرية.

لقد طرح ليون بورجوا فكرة "الدَين الإجتماعي" La dette sociale الذي يؤسّس للتضامن بين الناس. أي ان يشعر المواطن بأنه مَدين للذين سبقوه وللذين يعيشون معه بالخيرات المادية والثقافية التي يتمتع بها في حياته. فبدون ما انتجه هؤلاء، لم يكن بإستطاعة هذا المواطن ان يعيش كما يعيش.

تصطدم هذه الفكرة في لبنان بعقبات ايديولوجية. فالأفكار السائدة والمتداولة تقول لللبناني انه مَدين لاعضاء مذهبه بما هو عليه وليس لمجموع المواطنين. كما ان ما يتمتع به من موارد ليس نتاج بلده فقط، بل من مساعدات مالية واستيراد إقتصادي وثقافي، بسبب تبعية الاقتصاد والمجموعات الطائفية تاريخيًّا الى الخارج، في ظل ضعف الدولة والتشكيك في الكيان اللبناني الذي يعتبره البعض مصطنعًا ونتاج توزيع النفوذ بين القوى العالمية.

من اللافت مثلاً ان اشكال التضامن اليوم لمواجهة التداعيات الإجتماعيّة لكورونا، بإستثناء بعض المبادرات المهمة، هي أشكال حزبية مذهبية او مناطقية تحصر المساعدات بالمحازبين وبأبناء المذهب الواحد. مثلا وضع "حزب الله" امكاناته الكبيرة حصريا في خدمة جمهوره، وإطلق "التيار العوني" حملة "العونة العونية" في خدمة أعضائه. وكذلك تفعل باقي الاحزاب المذهبية ولو بشكل أقل بروزا.

رغم أن الانتفاضة اللبنانية كانت قد خلقت حالة من التضامن على المستوى الوطني، بعيدا من الأصطفافات المذهبية التي عادت ترفع رأسها من جديد.

مؤسسات الحوار الإجتماعي

تعاني مؤسسات الحوار الإجتماعي من شبه تعطيل. فلا لجنة مؤشر الغلاء تعمل، ولا المؤسسة الوطنية للاستخدام تضع سياسة استخدام وتطبّقها، ولا مجلس الإدارة في الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي، الثلاثي التمثيل، يعمل، بسبب عدم تجديده لأسباب سياسية.

أما المجلس الإقتصادي الإجتماعي الذي عُطّل عمله لأكثر من 15 سنة، وعاد للعمل سنة 2019، فإن دون مساهمته عوائق ثلاثة على الأقل:

- عدم مشاركة الدولة في تركيبته.

- غياب تمثيل هيئات المجتمع المدني ولا سيما المشاركة في الإنتفاضة اللبنانية .

- إقتصار عمله اليوم على "نصح" الجهات السياسيّة، من دون إطلاق دينامية حوار باستقلالية عن السلطة السياسيّة ومحاولة إجبارها على التفاعل معها.

تتحمّل الدولة الجزء الأكبر من أسباب تعطّل مؤسسات الحوار الإجتماعي. هذه الدولة التي لم ترقَ بعد الى مرتبة دولة الرعاية (إلاّ في فترة حكم الرئيس فؤاد شهاب بين سنة 1958 و 1964)، بل إتصف دورها بالهامشي من الناحية الإجتماعيّة وبإقرار سياسات ماليّة إقتصاديّة ضد مصالح الفئات العمّاليّة والشعبيّة. كذلك فهي ساهمت إما بتعميم الفساد مباشرة في مؤسسات الدولة والمجتمع أو بغض النظر وتوفير الحماية له.

يضاف الى كل ذلك تراجع ثقافة الحوار بشكل عام في المجتمع اللبناني، بعد الحرب، ونتيجة الخطاب السياسي المذهبي المشحون، وبعض القوانين التي لا تضع قيودًا على ممارسة العنف ولا سيما في الأسرة.

رغم قتامة هذه الصورة، لا يمكن الخروج من الازمة الا بتعاون جميع الاطراف المعنيين: الدولة، النقابات، أصحاب العمل، الانتفاضة وهيئات المجتمع المدني.

لكن هناك طرفين يمكنهما ان يلعبا الدور الأكبر في تحريك عجلة الحوار الإجتماعي وربما الوصول الى عقد إجتماعي وطني: النقابات ومجموعات الإنتفاضة اللبنانيّة.

فرغم تقصير هذين الفريقين حتى الآن، إلاّ انه من المؤكّد ان لهما مصلحة في لعب هذا الدور، إذا تعاونا.

لكن المشكلة ان الاتحاد العمالي العام لعب دورًا سلبيًّا ابان الإنتفاضة. فلم يكتفِ بعدم المشاركة بل أطلق بعض المواقف المشككة والمسيئة. وعلاقته مع مجموعات الإنتفاضة سيئة ويشوبها عدم الثقة المتبادلة.

المطلوب من الاتحاد العمالي العام، إذا أراد أن يدافع عن العمال بالفعل، ان يتجاوز مواقفه السابقة، ويتبنّى بعض أطروحات مجموعات الإنتفاضة في التغيير الإجتماعي الإقتصادي. وكذلك مطلوب منه رفع وتيرة الضغط على الحكومة وعدم الاكتفاء وبإصدار البيانات. ربما بسبب موقعه الملتبس، بين العمال الذين من المفترض ان يمثلهم، وبين السلطة التي تنتمي قياداته الى أحزابها، يمكن للإتحاد العمالي العام ان يلعب دورا في إقناع السلطة أنه قد يكون من مصلحتها في مواجهة الازمة إشراك النقابات والمجتمع المدني بقراراتها.

مواقف الاتحاد العمّالي العام الأخيرة جيدة وتذهب في هذا الاتجاه، وتتلخّص في الآتي:

- دفع ما يقارب الحد الأدنى للأجور للذين فقدوا اجورهم حتى انتهاء الأزمة.

- فرض ضريبة تصاعدية على الودائع التي تفوق الــ 500 الف دولار اميركي.

- إشراك العمّال في وضع سياسات المواجهة الإقتصاديّة الإجتماعيّة.

- تطوير القطاع الاستشفائي الحكومي والتعليم الرسمي وتأمين الرعاية الإجتماعيّة الشاملة.

- رفض سياسة الخصخصة وبيع القطاع العام كجواب على العجز المالي.

- دفع أجورالمياومين.

- تطبيق التشريعات المحلية والدولية.

من جهتها بدأت نقابات المهن الحرة بقيادة نقابة المحامين، بتنظيم حملة ضد محاولة الحكومة المس بودائع صناديق التقاعد والتعاضد. وطالبت بحزم وتكرارا بأن تكون طرفا في مناقشة الحكومة بما تطرحه من سياسات.

أما بالنسبة لمجموعات الإنتفاضة، فالمسألة أكثر تعقيدا.

في اعتقادي انه على الإنتفاضة تجاوز المطلب غير العملي لبعض أطرافها بإستقالة الحكومة. والعمل مع القوى ذات المصلحة من اجل لجم الإنهيار على كل الصعد، ولو على حساب إرجاء الصراع مع السلطة. ولا سيما أن المراهنة على "ثورة جياع" غير واقعية في ظل التركيبة اللبنانية وحالة الافلاس وعدم تنظيم الجياع أنفسهم. وكذلك ليس واقعيا، الا بعد فترة طويلة لا يمكن للازمة ان تنتظرها، المراهنة على تشكل قوة سياسية معارضة، كما حصل مثلا في اليونان مع حزب "سيريزا" الذي تشكل أساسا من العمالة الهشة في وجه الانهيار المالي وسياسات التقشف. فربما يتم تشكل هذه المعارضة السياسية لمناسبة الانتخابات النيابية المقبلة.

أضف الى ذلك قدرة الاحزاب المذهبية على امتصاص جزء من النقمة عبر إمكاناتها المالية ووضع يدها على مؤسسات الدولة وخدماتها. وقد بدأت تظهر محاولة إحتكار الصراع بين أهل السلطة أنفسهم عبر إعادة إحياء ثنائية 8 و14 آذار لمناسبة مناقشة خطة الحكومة.

التلكؤ اليوم عن السعي للمشاركة في قرارات السلطة يؤدي الى إستفرادها في إتخاذ القرارات تماما كما حصل بعد الحرب، مما أدى الى إلزام الشعب بسياسات يدفع ثمنها اليوم. والسياسات إذا أقرت اليوم فستكون بشراكة دولية مما يصعّب تعديلها لاحقا.

لقساوة القدر، سيكون على اللبنانيين اليوم، معايشة ظروف شبيهة بما بعد الحرب. فبعد الحرب فرض عليهم أمراء الحرب الذين دمروا البلد، تسوية بدعم خارجي سياسي أقتصادي وعسكري. اليوم، تريد السلطة السياسية التي أفلست الدولة ونهبت أموال الناس، أن تفرض عليهم تسوية مالية اقتصادية اجتماعية تدفّعهم ثمن الازمة، وبدعم خارجي أيضا.

التنسيق والتعاون بين القوى المتضررة من سياسات السلطة، يجب ان يركز على ما تطرحه الحكومة اليوم في خطّتها الإجتماعيّة الإقتصاديّة التي بدأت تظهر ملامحها الأساسيّة.

ان التوصل الى عقد إجتماعي وطني يفترض المشاركة في مناقشة ما تطرحه الحكومة في خطّتها والعمل على إضافة ضمانات تشريعيّة لحماية العاملين في أجرهم وفي تقديماتهم الإجتماعيّة، وقبل كل شيء في ديمومة عملهم. مما يفترض أيضًا وضع تصوّر لصندوق البطالة وكيفيّة تمويله وإدارته، على ان يأخذ هذا التصوّر في الاعتبار البطالة البنيويّة والبطالة الظرفية نتيجة الإنهيار المالي وإنتشار كورونا. كذلك لا بد من موقف حاسم من مسألة تأمين التعليم المجاني والتغطية الصحية الشاملة. على أن يكون العقد الاجتماعي جزءا لا يتجزأ من خطة الحكومة.

الحجر المنزلي المرشح لأن يطول، لا يمنع من إبتكار أطر للتنسيق بين المتضررين وللضغط على سلطة اثبتت التجربة انها تتراجع عن قراراتها إذا أُحسن الضغط عليها ولو من خلال الاعلام وشبكات التواصل الأجتماعي فقط. وقد أعطت نقابات المهن الحرة أفضل مثل على طريقة التعاطي القطاعي الجدي والحازم مع الأزمة. والضغط على السلطة يمر أيضا بالتواصل مع الجهات الدولية المرشحة لأن تمول خطة الحكومة. فالطرفان، ورغم التضارب في بعض مواقفهما، يحتاجان الى ضمانات متبادلة في التعامل مع سلطة غير موثوق بها من الطرفين.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم