الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

الكَرْمُ المُهاجِر

المصدر: "النهار"
باسم عون
الكَرْمُ المُهاجِر
الكَرْمُ المُهاجِر
A+ A-

(كُتِبَتْ في زَمَنِ الكورونا)

عندما يتقدّمُ بِكَ قِطارُ العُمرِ وتَتَدافعُ في وجهِكَ السُّنون تَدافُع الأشجارِ والمنازِل، صافِعَةً زُجاجَ السّيَارات، لا بدَّ لَك من الوقوفِ لحظةً لِالتِقاط الأنفاس... وإِذا بِالزَّمنِ يعودُ بِكَ القَهْقَرى إلى ماضٍ جميلٍ مضى وَلَن يَعود...

هناك، على ناصِيَة الدَّرب الهابِطِ في أحْشاءِ الوادي، كان لنا كَرْمٌ، ترقصُ في جنباتِهِ الدَّوالي فَرِحةً جَذْلى بِما تَدلّى مِنها منَ ثُّريّاتٍ بِلَّوْرِيَّة، فَتحسُدُها شجراتٌ مُعَمِّراتٌ من التّينِ الأبيض – عَسَلِ تِلك الأيَّام – لاطِيَةً في كَنَفِ "الحفافي" بِمأمنٍ من الرِّيح وعاتياتِ العواصف.

ولمّا كان كرمُنا مُرابِطاً على حدودِ الوادي، كانَ من الطَّبيعي أَن يُشَكِّلَ خطَّ الدِّفاع الأوَّل لِـ"الحضارةِ" في وَجْهِ مملكةِ الغاب.

أمّا وسائلُ الدِّفاع الجَوِّيّةِ، تِلك الأيّام، فَقد تَجلّتْ ببضعِ فَزّاعات أو ما يُسَمِّيَها العامَّة "خْيال صَحْرا". وهو عِبارة عن عصًا تحملُ عارِضةً تعلوها كتلةٌ من الخِرَقِ البالِيَة تقوم مقام الرأسِ، حُشرَت فوقَها قبّعةٌ كبيرةٌ من القَشِّ، غالبًا ما تكون على الطِّراز المَكْسيكيّ.

وعلى الهَيكلِ الخشبيّ المُتَصالِب، عُلِّقَت مُلاءَةٌ أُحِيلَتْ على التَّقاعُدِ بعدَ عقودٍ طويلةٍ من الخِدمَة. فإذا ما راوَدَها الهَواءُ عن نَفْسِها، فَهِيَ السَّافِرَةُ في الغَواني قد اْستَخفَّهُنَّ الطربُ.

أمّا بِشأنِ الغَزَواتِ الأرضِيَّة، فقد احتاط "أبو بشارة" الجَدّ لهذه أيضًا، فعَمَدَ إلى الفِخاخِ الحديديَّةِ ينشُرُها على مَداخلِ الكرمِ، لِيَرُدَّ عنه غائِلةَ الخنازيرِ البَرِّيـَّة حينًا، وبناتِ آوى وأخواتِها أحْيانًا.. أمّا فريقُ التَّدخُّلِ السَّريعِ فكانَ مُؤَلَّفًا من عِملاقَيْنِ اثنَيْن، مُدَجَّجَيْنِ بكلّ ما يَلزمُ في حالِ قِيامِ السّاعة: "جَدُّكَ بِعصًا غليظةٍ من السِّنديان وكَلبُهُ "نِمْر" بأنيابٍ قاطعةٍ تَدفَعُها َشراسَةٌ غيرَ مسبوقةٍ تِجاهَ كُلِّ ما يَدُبُّ على أرْبَع."

تلكَ كانْت حالُ الكَرْم في السَّنوات الغابِرة على ما وَصَفَها لي أبَي.

وتذهبُ بِهِ الذِّكرى أَيضًا ضاربةً في الماضي السَّحيقِ فَيُتابِع:

"كنتُ فَتًى في الثّانِيةَ عشرةَ مِن عُمْري، وتَعْلمُ أَنَّ الرَّغْبَةَ في النَّومِ عندَ الفجْرِ، لا تعادلها رغبةٌ عِنْدَ مَن هُم في مثلِ هذِه السِّن. وَلكِنَّ جَدَّكَ – رحِمَهُ الله – لم يكُن مِن أصْحابِ هذا الرَّأي على الإِطْلاق. فالنَّومُ في عُرْفِهِ كَسَلٌ، وخُمولٌ، ومَوْتٌ آخر. وَعَلَيْهِ فَلا يكادُ يَظهَرُ اللّون الأبيضُ من اللّونِ الأسودِ في خُيوطِ الفجْرِ حتى يَسْتَنْهِضَني بِعبارَتِهِ المَشْهورة:ِ "قوم بَيّي قوم ، حِمْيِتْ الشَّمس". فأَقومُ لا حولَ لي ولا قوَّة، وما في الأُفْقِ لا شمسٌ ولا قمر، وأقِفُ مُتَلَمِّسًا ثيابي في ظلمة السَّحَر الموعود بتباشير الفجر، محاذِرًا الاصْطِدامِ بأواني البيتِ مِن أَوْعيةٍ فخّاريةٍ وجرارٍ وما إلى ذَلِك، لاعِنًا في سرِّي التِّينَ وزارعِيه وآكِلِيه أيضًا. ولَكَمْ دَعَوْتُ من صميمِ القلبِ مُبْتَهِلاً إلى اللهِ أَنْ يُرسِلَ الأَوْبِئَةِ الفتَّاكَةِ فَتُيْبِسَ هذا النَّوعِ من الفاكهةِ وَتَمحِيَهُ مِنَ الوجود!". 

وعِندما قاطَعْتُهُ لافِتًا نظره إلى أنَّ التِّينَ عَسَلُ الفاكهة، فكيفَ يَـطْلُبُ اندِثارَهُ؟! اسْتَدْرَكَ قائِلاً:

"عِندما يُسرِفُ الشَّيءُ في الوجود، فهو إِذًا غيرُ موجود. وعِندما يكونُ عليكَ أَن تَقْتَطِفَ ما مقدارُهُ عِشْرينَ سَلَّةً من التِّين يومِيًّا قبلَ طُلوعِ الشَّمس، وَتعودَ بِها إلى البيت والدَّمُ يَنِزُّ مِن أطْرافِ أصابعِكَ، تعالَ حينئذٍ وأخْبِرني عَن عَسَلِكَ هذا..."

أمّا الدَّوالي السَّالفةُ الذِّكر، فقد كانت لي مَعَها، أنا حَفيدُ "أبو بشارة" خبرةٌ شخصيّة؛ وإن أنسَ لا أنسَ فجرَ ذلِك اليوم الخريفيّ حِين أيْقَظَني والدي لِمرافَقَتِهِ إلى الكَرْمِ بُغْيَة قطافِ ما تبقَّى مِنَ العناقيد.

الكرْمُ بعيدٌ. ولكنَّ المغامَرةَ مُغْريَةٌ. عندَ البابِ كانَ حمارٌ - أجَلَّكُم الله - مربوطًا بانتظارِ فَكِّ الأسْرِ والمَهمَّةِ الجَلَلْ، وعلى ظهرِه قَد رُبِطَتْ صُندوقتانِ، مِن كلِّ جهةٍ واحدة، لِكَي تَعْدِلَ كلٌّ مِنهُما الأُخرى، و"الجِلال" حاجزٌ بينهُما فَلا يَبْغِيان. فَتذكَّرتُ للحالِ الميزانَ المنصوبَ في قاعةِ المحكمةِ في أحدِ الأْفلامِ المَصْريَّة السَّعيدةِ الذِّكْر.

كان هذا قبلَ الحربِ اللبنانيَّةِ بعدَّة أشْهُر. وكنتُ لمَ أتخطَّ العاشرةَ من عُمري. ولا تَسَلْ عن فرحَتي حينَ رفَعَني والدي بينَ يديهِ وقال: "اِركَبْ". وركِبتُ. كَمْ جميلةٌ الدُّنيا من فَوْق... ومَشَيْنا. أقصِدُ مَشى والدي جارًّا حمارَهُ، ولَوْ قِيلَ في ذلك الوقْت "حِمارَيـْهِ" لمَا نَقُصَ من فَخْرِيَ واعتِزازي شيءٌ. كيفَ لا وأنا مُسْتَوٍ بينَ الصُّندوقَتَيْن على ظهرِ الحمارِ استواءَ السُّلطان فَوْقَ سريرِ المُلْك.

فَرْحةٌ عارمةٌ واعتزازٌ كبيرٌ لمَ يُنَغِّصْهُما عَلَيَّ في ذلك الصّباحِ المجيدِ سوى خُلُوِّ الطَّريقِ مِن المارَّةِ ولا سيَّما الأولاد منهم. فَمَن سَيَشْهدُ لِهذا الفارسِ الصَّغير المُتَوَّجِ على صَهْوَةِ ابنِ أتَان؟ إِلّا إذا كان حمارُ "بو طَنّوس" هذا من سلالةِ حمارةِ "بلعام" الناطِقَة، فَيَنشُرَ الخبرَ، ويكونَ للصَّبيّ ما اشتهاهُ. ووصلنا إلى الكَرْم. حَطَطْنا الرِّحال، وابتدأ العمَل.

على الدَّوالي تدَلَّتِ العناقيدُ يانعةً دَبِقَةً وقَد اكْـتَـنَزَتْ مِنَ الحَلاوَة ِ والاسْمِرار لَكَأنَّها - والتشبيهُ هُنا لِأَحَدِ النُّوَّاسِيِّين مِن نُدَماءِ أَبي - زرافاتٍ مِنَ الشَّقْراواتِ قَدْ نَضَجَتْ جُلودُهُنَّ بعدَ حَمّامٍ شَمسيٍّ طويل على شاطئ "السّان جورج". فَلا تَكادُ تَلمُسُ العنقودَ حتّى تَرْتَميَ حُبَيْباتُه بين يَدَيـْكَ مِغْناجَةً جَذْلى كأنَّما تَصْرخُ في دِمائِها روحُ الخمرِ العتيق، تَرجو انعِتاقًا، ويلِجُّ بِها الشوقُ إلى جَلَبَةِ المعْصَرةِ لِتَستَسْلِمَ أخيرًا هانِئَةً في ظُلْمَةِ الدِّنان.

وَعُدْنا... وكانتِ الشَّمسُ قَد أَشرقَتْ تُضاحِكُ الحقولَ مِن وراءِ جبلِ حَرَمون. وكانَ نهارًا حافلاً جَمَع سُكّانَ الحَيّ في وْرشَةٍ فُولكلوريَّة. ولم تَمضِ العَشيَّةُ حتّى أَمْسَتِ الرُّفوفُ في القَبْوِ عامِرَةً بالكثيرِ مِن ذاكَ الَّذي قَليلٌ مِنهُ يفرحُ قلبَ الإنسان.

وجاءَتِ الحربُ... قتلٌ، َودمارٌ، فَهِجْرة... وهاجرنا. وغابت أمجادُ الكَرْمِ في غياهِبِ النِّسْيان... وبعدَ عَقْدَيـْنِ من الزَّمن، انتهَتِ الحرب. وعادَ أبي إلى قريتهِ، عادَ إلى بيته وأُناسِهِ وكَرْمِهِ... وكانَ للكَرْمِ بعثٌ جَديدٌ على ساعِدَيْهِ القَويِّـَّين.

ومرّتِ الأيام ... ثم ماذا؟ فَبعدَ كلّ هذِه السَّنواتِ باتَ على والدي وقد تقدّمَتْ بهِ السِّن أَنْ يَستأجِرَ فَعَلَةً لِكَرْمِهِ، فَصَحَّ بِهِ ما جاءَ في الكتاب: "إذا لمَ يَبْنِ الرَّبُّ البيتَ، فَعَبَثًا يتعبُ البنّاؤون". وَلَبِسَ الكرمُ لبوسَ الإهمالِ مِن جديد...

في الصَّيفِ الماضي حَزَمْتُ أمري على إحياءِ كرمِنا الأُسْطُورِيّ ذاك. فتوجّهتُ إلى القرية، تاركًا وَرائي المدينةِ بِضوْضائِها وَضَجِيجِها. أَخْبرتُ أبي بِـما عَزَمْتُ عَلَيْه، فَرَحَّبَ بِالفِكرةِ أَيَّما ترحيب، وَكَأنِّي بِهِ قَد عادَ ابنَ أَرْبَعَةَ عَشَر. ارتدى ثيابَ الحقلِ ومَشى يَسْبِقُني إلى مَلْعَبِ طفولتِهِ ومَوْئِلِ الذِّكريات.

وهناك، على مشارف الكرم، أُصيبَ أبي بالدَّهشةِ واكتنف الوجومُ وجهَهُ. صِدِّقوا، لَم نَسْتطِعِ الدخولَ إلى الكَرْم. فقَد سُدَّت إليهِ المنافِذُ جميعُها، أمّا طريقُ السّابِلَة فَقْد كَساها القَنْدولُ والبَلّانُ والعَوْسَج. أمّا أشجارُ العَفْصِ والمَلُّول فقد تَعالَتْ، فَغَطَّت على ما بَقِيَ مِن أشجارِ التّين والزَّيتون، كَما تَسلَّق البُطْمُ على فُروعِ الدَّوالي فَخَنقَها. بعدَ محاوَلَةٍ مُضْنِيَةٍ، استطعتُ أَنْ أَلِـجَ إلى الدّاخل، فَهالَني ما رَأَيْت، وَكَأنَّما "الحَفافي" قَدِ انهارَت إِثْر هَزَّةٍ أرضيَّةٍ، وَكَأنـّي بِالتُّربةِ قَد جَرَفتْها مياهُ الأمطار نحوَ الوادي. أمّا تِلكَ النّاحيَةُ المُشرِفةُ على الوادي فلَم يبقَ لَها مِن أثَر، إذ انتصبَ في وجهِها جدارٌ كثيفٌ من الأشجارِ الحرجِيَّةِ المُعْتَرِشَة فَحَجَبتْ ذلكَ المنظرَ الجميل. نَعَم، دَغْلٌ كَثيفٌ، جدرانٌ مُهَدّمةٌ، جُلولٌ مُرْتَحِلَةٌ صوبَ الغاب، وبقعةٌ صغيرةٌ من السماءِ راحَتْ تُشَكِّلُ ما بقيَ مِن متنفّسٍ وحيدٍ لذَلِكَ الّذي كانَ كَرْمًا في سالِفِ الأيـّام...

وخرجتُ مُمَزَّقَ الثِّياب، دامِيَ اليَدَيْن، مُبْتَلَّ العَيْنَيْن، لِأَرى والدي جالِسًا على صَخْرةٍ دَهْرِيَّةٍ يَتأمّلُ في حزنٍ عَميق قِطعةً مِن ماضِيهِ قَد وَلَّتْ إلى غَيْرِ رَجعة...

قلتُ: "سَنُرجِعُهُ يا أبي"، وأنا أتطلّعُ نحَو الوادي مُحاذِرًا النظر في عَينَيْه.

قالَ: "كان حُرْجًا عِندما أنشأه جَدُّكَ، وإلى الحُرْجِ يَعود."

قلتُ :"سنعيده أجمل، سَتَرى".

قالَ وقَد تَهَدَّج صوتُهُ وبانَ التأثُّرُ في عَيْنَيه: "الكَرْم هاجَر يا صَبي. هاجَر عَالحِرْش. شِفْتِلَّكْ شي حَدا هاجَر وْرِجِع؟ هَيْدا إِنْت، إِدَّيْش صَرْلَكْ بْـبَيروت، وْكِلّ سِني بِتْقول بَدَّكْ تِرْجَع عَالضَّيعَه! ما فِيك يا بيّي. ما فيك! اللّي هاجَر ما بْيِقْدِر يِرْجَع"...

...أَكْتُبُ هذا اليوم، وأَنا مُتَكَـوِّرٌ على أَرِيكَتي في غُرْفةِ الجُلوس، في زمنِ الحَجْرِ المَشْؤوم خَوْفًا مِن هذا الوَباءِ المُمِيت.

وبينما رُحْتُ أفكِّرُ بِذَلك الكَرْمِ "المُهاجِر"! تزاحمَتْ في رأسيَ الأسئِلة. أَتُراهُ قَد هاجَرَ فِعْلًا إلى غابَتِهِ، أَمْ هِيَ الغابَةُ الأُمُّ الّتي استَرَدَّتْ وليدَها؟ ونِداءُ التُّرابِ هذا وما نَسمعُهُ اليوم، أَلَعَلّهُ صُراخُ الأرضِ قد هَرَعَت هيَ أيْضًا تَسْتَرِدُّ أبناءَها؟ ورُحْتُ أُسائِلُ النَّفْسَ، إِذا ما قُدِّرَتْ لَنا النَّجاة - نحنُ البَشَر - هَل سَيَتَأتَّى لَنا أَن نُعيدَ حِساباتِنا يومًا؟ وأَن نعودَ فَنبْتَهِجَ من جديدٍ بالقَليلِ الّذي كان لَنا كَما لَوْ أَنَّنا قد مَلَكْنا العالَم؟

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم