الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

شباب لبنان والمصير الحتميّ

المصدر: النهار
أنطوني بركات
شباب لبنان والمصير الحتميّ
شباب لبنان والمصير الحتميّ
A+ A-

قصة واقعيّة بعيداً من الكورونا:

لن أتكلّم في السياسة، أو في أرقامٍ وتقارير، أو في الملفات الكبيرة كالوضع المالي والديفولت والكابيتال كنترول، تلك المواضيع المعقّدة البعيدة من يوميات الناس وحياتهم.

سأخبركم عن جورج، صديقي، هو شاب طموح، محبّ لهذا البلد، عاشق له؛ يحبّ كل ما فيه، مبانيه، عاداته، وناسه؛ مغرم ببيروت وبيوتها وجنونها، ومَن لا يحب بيروت؟! تلك الشرقية الجميلة والغربية الحالمة، تلك الشابة الدائمة، العصرية، صاحبة التاريخ المهيب؛ وطبعاً يحب عائلته وأهله، "وعنده ستُّه سيدة بالدني"، كما يردّد وتردّد جدّته دوماً.

تخرّج جورج من الجامعة منذ سنتين تقريباً، درس الهندسة المعمارية. خمس سنوات ليست بالوقت القصير، قضاها وهو ينحت حلمه بيديه، واصلاً اللّيل بالنهار. وفي حفل التخرّج اجتمعت العائلة كلها، كما دائماً، فهذه لُحمة اللبنانيين المميزة، اجتمعت لتحتفل بنجاح ولدها.

مضت سنتان على حفل التخرّج، وجورج لم يجد وظيفة بعد. ينتظر أن "تِفرَج" معه... أصبح في الخامسة والعشرين من العمر والفرج لم يجد بعد الطريق إليه. وبعد سنتين من الانتظار، تلقى عرضاً لوظيفة مقبولة في كندا.

رتّب أمتعته، جهّز الحقائب، أخذ "الزّعتر" وصار جاهزاً. رافقتُ جورج إلى المطار. في طريقنا كان السكوت ثالثنا. لم يكلّمني أبداً، لم ينظر إليّ حتّى. وبعد فترة سكوت طويلة، التفت ناحيتي وقال:

"ليش ما بيحبني لبنان؟ ليش تركني فلّ؟ ظالمٌ لبنان، يبعدني عن أهلي، عن "ستّي" الّتي ربما لن أراها مجدّداً، ما دخلي أنا بكل مشاكل البلد والسياسيين؟ أنا أريد فقط أن أبقى إلى جانب عائلتي، أتذوق طبخ أمي، أستمع إلى قصص جدّتي. هل أطلب الكثير؟ هل هذا كثيرٌ علينا؟".

وهنا طبعاً أجبته بلا تردّد، واثقاً من رأيي:

- ولكن في هذا البلد، هناك أناسٌ دفعوا دماً لحمايته من الطامعين واستطاعوا الحفاظ عليه في أصعب الظروف، لا تظلمهم هكذا.

أجابني: ما لم يقدروا على فعله في الحرب هؤلاء الطامعون، ينجزونه في السّلم. البلد يفرغ، وأخشى يا صديقي أن يكون الدم دُفع "عالفاضي"، فقط لتأجيل الرحيل قليلاً، فلم يرحل والدي في حينها، إنما أنا من رحلت اليوم. ربما لو ذهب هو وسواه وقتها، ووفرنا كل هذه الدماء لكان أفضل بالنسبة لي ولكل الشّباب؛ لكنت ولدت في بلد آخر وبقيت مع عائلتي بدلاً من خنقة البُعد التي تصيبني الآن وتصيب كلّ من يهاجر.

أنهى جملته وانتهى الحديث. ماذا أقول له؟ أكلّمه عن القضية والنضال والمقاومة وهو مهزوم، خائب؟ أخبره أنّ عليه الفصل بين الدولة والوطن، وأن عتبه لا يجب أن يُصَوّب على لبنان بل على الدولة والمسؤولين؟ ولكن ما الفرق بالنسبة له، طالما أن النتيجة نفسها. أحكي له عن حبّ الأوطان وهو يعشق وطنه، ووطنه ما أحبّ أحداً؟ أحرجني، وربما أقنعني، فصمتت.

عند وصولنا إلى المطار، أخد حقيبته منّي، شدّ على يدي بقهر، وقال لي:

ـ لم أتوقع أبداً أن يأتي يوم أقول فيه هذه العبارة: "أنا رايح... مكسور، بردان متل ولد مسلوخ عن حضن دافي. كسرني هذا البلد! بخاطرك".

تقدّم بضع خطوات، التفت صوبي وعيناه دامعتان، ثم قال:

ـ "توصّالي ببيروت وبسيدة وصلّيلي".

رحل جورج، ترك أحلامه في بيروت، وطفولته في بيت جدّته، وغاب. قصة جورج تُروى يومياً، هي ذاتها إنما بأسماء عدّة. هذا حالنا، نحن شباب لبنان اليوم، هذه مخاوفنا، وربما مصيرنا الحتمي. شبابٌ عاشق لبلده يطلب فرصة للعيش. للعيش فقط. واليوم أكثر من أي وقت مضى، نستذكر صرخة الكبير غسّان تويني الشهيرة: أتركوا شعبي يعيش!


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم