الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

كورونا وتشكّل نظام عالمي جديد

د.أيمن عمر- باحث اقتصادي وسياسي
كورونا وتشكّل نظام عالمي جديد
كورونا وتشكّل نظام عالمي جديد
A+ A-

من السنن الكونية حدوث تحوّلات في الأنظمة السياسية والاقتصادية وبخاصة عقب الحروب أو الانقلابات أو الأوبئة، وما نشهده اليوم من وباء عالمي وكأنه حرب عالمية ثالثة تختلف عن الحروب التقليدية. هو هجوم مسلّح بالوباء، اجتاح العالم بأيام وأسابيع قليلة، مما استدعى نزول القوات المسلحة في العديد من دول العالم لمواجهته ولكن من دون جدوى، ولم تفلح التقنيات العسكرية ولا المدنية في توقع حركته وانتشاره والحدّ منها. فاستسلمت بعض الدول ورفعت الرايات البيضاء وأكفّ الضراع إلى ربّ السماء فهو الوحيد حتى الآن القادر على إيقافه وإنهائه. جندي بحجم صغير لا يُرى بالعين المجرّدة احتلّ مدناً كبيرة وأحدث رعباً عالمياً وشلّ الحركة وفرض حظر التجوّل والتعبئة العامة واستنفار الطاقات، ترتّبت عليها خسائر اقتصادية بالمليارات ناهيك بالخسائر البشرية. وأثبت فشل الاكتشافات الطبية والأنظمة الصحية والامكانات الاقتصادية. بل وأعلن غياب التضامن الدولي واختباء التحالفات السياسية والمعاهدات الدولية والاتفاقيات الاقتصادية، على قاعدة "يا رب نفسي".

وأصدر هذا الوباء ورقة النعي الرسمية "للعولمة"، فتحوّل العالم من قرية كونيّة واحدة إلى قرية كورونية واحدة، فالعولمة وأوّالياتها وكسر الحواجز وانفتاح الحدود سهّل من مهمة هذا الجندي في احتلال ما يريد من مدن. فأغلقت الدول حدودها وأُعيدت خطوط التماس العالمية فالعدو قد يمسي حليفاً وصديقاً، والصديق يتحول إلى خصم وعدو. فأي مفعول لاتفاقية الغات وأي دور لمنظمة التجارة العالمية سيبقى. وتكشّفت حقيقة النيوليبرالية والرأسمالية المتوحشة التي تستثمر بأدوات الكوارث ولم تجلب للبشرية إلا الخراب والدمار والويلات. الحرب العالمية الأولى أثمرت منظمة الأمم المتحدة ومتفرعاتها، والحرب العالمية الثانية أنتجت مؤتمر "بريتون وودز" وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وما تبعهم لاحقاً إثر صدمة نيكسون عام 1971 من ربط عملات دول العالم أجمع والاقتصاديات العالمية بالدولار. ولم تعد النقود انعكاساً حقيقياً لقيمة الثروة في المجتمعات ونتاجاً فعلياً لقيمة وحجم الاقتصاد الحقيقي، فتحولت في البداية إلى أوراق عليها طوابع ورسومات خاصة بكل دولة وخالية من أي قيمة حقيقية، ثم تحوّلت إلى حسابات وأرقام وهمية بل تضخيمية لكتلة النقد الفعلية ولحجم الاقتصاد الحقيقي. وها هي الحرب العالمية الثالثة (كورونا) تعلن انتهاء فاعليّات العديد من المنظمات الدولية وانتهاء الدور الوظيفي للدولار كعملة ارتكاز عالمية وحيدة، وتؤكد حقيقة فشل النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة الاميركية والدولار الاميركي وما جرّ ذلك من أزمات مالية واقتصادية عالمية. الولايات المتحدة التي خرجت منتصرة مزهوة بعد الحرب العالمية الثانية ولم تُطلَق طلقة رصاص واحدة على أراضيها، مما مكّنها من قيادة العالم لاحقاً وفرض منظومتها الاستعمارية المقنعة على دول العالم. ها هي اليوم يقتحم العدو أراضيها من دون استئذان ولم تستطع آلتها العسكرية ولا مقوّماتها الاقتصادية ولا عقولها الريادية ولا إنتاجاتها الفكرية من مجابهة هذا العدو الخفيّ. نعم نحن أمام "نهاية التاريخ" ولكن ليس وفق فرانسيس فوكوياما عبر انتصار الديموقراطية الغربية باعتبارها أرقى ما توصل إليه العقل البشري، نحن أمام نهاية التاريخ الاميركي وفشل المنظومة الغربية الأميركية في قيادة العالم. وإن صدام الحضارات الذي بشّر به صموئيل هنتغتون ارتدّ على أصحابه، فالحضارة الغربية بقيادة الولايات المتحدة منتجة للأزمات العالمية بشكل دوري وهي تحمل في طيّاتها بذور الاضمحلال، وتجرّ العالم معها نحو الهاوية. كرّست كورونا قِيَماً أخلاقية إنسانية غائبة عن وجدان الضمير والوعي والثقافة الغربية كالتلاحم الأُسري والتضامن المجتمعي والإنفاق غير النفعي والجماعية والروحانيات والشعور مع الآخرين وتوزيع الثروات والعدالة الاجتماعية، عكس قِيَم الحضارة الغربية القائمة على الفردية والشخصانية والنفعية والمادّيات وحساب الربح والخسارة والتباعد الأُسري والتحلل المجتمعي وتركز الثروات والتفاوت الاجتماعي.

جاءت أزمة النفط وانهيار سعر البترول لتدكّ مسماراً في نعش النظام العالمي الحالي، وإمكانية انهيار دول وتفكك دول أُخرى، والوقوف في وجه المخطط الأميركي بسيطرة نفطه الصخري على السوق العالمية.

إن أبرز ملامح النظام العالمي الجديد هو عدم التفرد في قيادته من طرف واحد، وإنما التكامل البشري في تحقيق الخير الإنساني، وإخضاع الماديات للإنسان وليس العكس أن يصبح الإنسان عبداً للمادة. ومن أهم مقوّمات النظام العالمي الجديد إعادة إحياء الروح الإنسانية بربطها بمنظومة القيم الأخلاقية المشتركة مع الاحتفاظ بالخصوصيات الحضارية والهوية الثقافية لكل مجتمع. والاقتصاد في هذه المنظومة الجديدة يجب أن يكون اقتصاداً تنافسياً وليس إلغائياً والسعي إلى تغيير العادات الاستهلاكية والأنواع والأنماط الإنتاجية، ووالتركيز على الاقتصاد المنزلي والوحدات الإنتاجية الصغيرة أحد محاور عمليات الإنتاج، وإعطاء العلم والعلماء الدور الريادي في المجتمعات ليصبحوا هم النماذج والقدوات وليس مشاهير الفن والأزياء والرياضة.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم