الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

كتاب - "مسكن الهبة" لـبول سعادة: البنوّة بين الداء والدواء

فوزي يمّين
A+ A-

ينحو كتاب الدكتور بول سعادة، "مسكن الهبة"، الصادر حديثاً بالفرنسيّة عن دار "Orizons"، منحى البحث الاختصاصيّ العميق، لما يكتنز في داخله من خبرات علميّة وتربويّة طويلة، كان قد استجمعها المؤلّف حصيلة دراسته الجامعة بين العلم واللاهوت، راسماً في خطوطها البيانيّة العريضة مسار "البنوّة" الإنسانيّة، وعمليّة تحويل السلبي فيها إلى إيجابيّ، والنقمة إلى نعمة، والداء إلى دواء. فما المقصود بذلك؟ وكيف تتمّ هذه العمليّة؟


لا يقتصر مفهوم الانسان في أبعاده الأنتروبولوجيّة على ولادته فحسب، بل يتحدّد من خلال التفاعل مع "اللغة" في مختلف مكوّناتها. والمقصود، خلاصة البيئة التي ينمو فيها الإنسان، مشاعره وأحاسيسه، كأداة تواصل وتكوين، عبر مجموعة من الرموز والأدوات. فالتفاعل مع هذا الواقع الرمزيّ هو ما يكوّن شخصيّته، وتالياً فرادة هذه الشخصيّة. تباعاً، تغدو هذه الفرادة، إزاء هذا الواقع الرمزيّ، كفيلة بإبداع الجديد في التقليد، وقطع "التكرار"-حتميّة التشابه الموروث. إذ ما يميّز الانسان، هو "البنوّة" التي يحصل عليها (كلّ إنسان هو إبن/إبنة)، وطفولته، كمسار صيرورة تاريخيّة، تنقله وتخلّصه من حالة الهشاشة الجوهريّة، حين يكون عاجزاً جذريّاً، وغير مجهّز للحياة (لا ينطق، لا يقف، لا يمشي، لا يتنقّل بدون أحد). حتّى "المجنّس" البيولوجيّ (ذكر/أنثى) بحاجة إلى تنشئة غير منفصلة عن طبيعته البشريّة (الذكر ذكر، والأنثى أنثى)، التي هي التكملة الفعليّة للطبيعة البشريّة غير المكتملة. طبعاً من المهمّ أن تكون للإنسان طفولة، غير أنّه بحاجة دائماً إلى من يساعده على عيشها وتجاوزها. اذا لم يستطع تحقيق ذلك، تبقى أحياناً معلّقة ومربوطة في داخله إلى سنّ متأخّرة. واقع الطفولة، المرتكز ضمنيّاً على "البنوّة" القائمة على العطاء، يولّد لدى الإنسان شعوراً بأنّه "مديون" لما أُعطيَ له، طالما أنّه لا ينمو ولا يتكوّن إلاّ من هذا العطاء. ويرتبط معنى العطاء هنا بثقافة "الفصل". والفصل، لغوياً، قائم في أساسه على "ثالث"، غير الثنائيّ، أي الفصل عمّا سبق. حينها يتولّد إمكان أن يكون الإنسان فريداً مستقلاًّ عمّن أعطاه الحياة. تبعاً لهذه العمليّة، تتحوّل كلمة "فصل" إلى كلمة "عهد". فكما نقول "نقطع عهداً"، كذلك "الفصل" يقطع، كسكيّن، حبل السرّة، وتالياً يقطع الطفل عن الحنين إلى الرحم والماضي.
يفتح الكتاب تساؤلات كبيرة حول وظيفة "الأبوّة" في تكوين "البنوة" ومسارها نحو استقلاليّتها. كما يُشدّد على المكانة المميّزة لهذه الوظيفة التي ليس في مقدور الأمّ أن تقوم بها. يميّز بين دور الأمّ ودور الأب الذي هو أكثر أهمّية في هذا النطاق، ويتجسّد في أبعاد مختلفة ثلاثة: الأب الواقعيّ، الرمزيّ، والوهميّ. فماذا يحصل عندما يكون الأب غائباً؟ بالطبع قد يكون حاضراً جسديّاً، ولديه سلطة، ولكن لا تكون لديه كلمة "فصل". أمّا لماذا لا ينطبق هذا الغياب على الأمّ؟ فلأنّ الطفل هو في الأصل، على علاقة عضويّة مع الأمّ، لا يمكن أن تكون غائبة. إذ يشكّلان معاً جسداً واحداً، بالمعنى النفسيّ، حتّى ولو كانا منفصلين بيولوجيّاً لمدّة أشهر قد تصل إلى سنة. من هنا مدى تأثير الثنائيّة العضويّة البيولوجيّة النفسيّة بين الطفل والأمّ. في هذه الثنائيّة، يصبح الأب هو الثالث الذي يُدعى إلى "المسكن"، "مسكن الهبة". وتأتي دعوتُه هذه من الأمّ تحديداً، متمثّلة برغبتها فيه كامرأة. فمن الممكن أن يُدعى ولا يقوم بالمهمّة المطلوبة، ومن الممكن أيضاً أن لا يُدعى فيكون مُغيَّباً. لكن، في الحالتين، هو مدعوّ في ذهنيّة الأمّ/المرأة. ما يفتح المسألة على إشكاليّة كبيرة: كيف ترضى الزوجة بأن تُشرِك الزوج، وتتقاسم المهمّة معه، فلا تعود هي "الكلّ بالكلّ"؟ وكيف، بوضعيّتها الجديدة (انتقالها من زوجة إلى أمّ) تتقبّل نقصها، وتسعى إلى إشراك الأب/الزوج، في وقت ترى في الطفل/الطفلة تكملة لنقصها هذا؟
إنطلاقاً من هذه الإشكاليّة، تبرز فكرة "الهبة"/"العطيّة"، وتُطرَح كيفيّة الوصول إليها. فكرة "الهبة" ليست مصطلحاً نفسيّاً، بالرغم من علاقة التحليل النفسيّ بجانب منها، وقد قارب مفهومها الكثير من الفلاسفة والمفكّرين. فهذا لاكان، أحد المراجع الأساسيّة في الكتاب، يستمدّ من العلوم الاجتماعيّة لشرح فكرة "البنوّة" وإشكاليّتها. يأخذ مفهوم "الهبة"، في مقابل مفهوم "البنوّة"، بمعنى "الوراثة"، فيستخدم مصطلح "العطيّة" لشرح مسار "البنوّة" السليمة، معتبراً أن مفهوم "التوريث"، في هذه المسألة، خالٍ من كل تملّك. بمعنى آخر، يمكن إغراق الطفل بالممتلكات والهدايا من غير بناء شخصيّته، تالياً استقلاليّته، ومن غير حصوله على الجوهريّ، الخالي من أيّ تملّك. لكأنّما "التوريث" الحقيقيّ هو الفراغ، لكن القابل بأن يُملأ. من وجهة النظر نفسها، يستشهد الكاتب أيضاً بنيتشه ودريدا حول فكرة "التملّك"، من باب أنّ على الأمّ أن تستمرّ في كونها زوجة، فلا تجعل الطفل يشعر أنّها له بكلّيتها، بل هي كذلك لزوجها. في المقابل، على الأب المتسلّط أن يدرك أنّ سلطته متأتّية من آخر أيضاً، فيحتمل الزوجة والطفل معاً، ساعياً إلى "فصل" الأولى عن الثاني، وبذلك يكون قد أتمّ وظيفته بطريقة غير تسلّطيّة، لزوجته كما لطفله أيضاً.
من هذا المنظار، تكمن للباحث أهمّية في أن يتعمّق الزوج في ذكوريّته، والزوجة في أنثويّتها، من خلال اكتشافهما أن لا جواب عن الفارق الجنسيّ بينهما، ولا مفرّ لهما من هذا الفارق، وعليهما عيشه بتناقضاته. فأهميّة الرّابط الجنسيّ بينهما لا يختزله الفعل الجنسيّ فحسب، بل أهمّية قبولهما بما سميناه "النقص"/الفراغ"، وأهمّية "الكلمة"/"الفصل" بينهما، لأنّها هي التي تبني الطفل، وتكون له المسكن الملائم لولادة شخصيّته الحرّة والمستقلّة. فكل تسلّط في هذه العمليّة، يؤدّي تلقائيّاً إلى ما يشبه النرجسيّة، بحيث تقفل الذات الإنسانيّة على نفسها، وتترك الكثير من الآثار السلبيّة على عمليّة التربية.
يبدو مسار "البنوّة" الطويل هذا، في تشعّباته وتعقيداته وتناقضاته، أشبه بلعبة "الفراغ" التي تحتوي على مربّعات ممتلئة باستثناء مربّع فارغ هو الأساس في حركتها، بدونه لا يستطيع أيّ من اللاّعبين التحرّك، ولا تمشي اللعبة. وقد يكون أيضاً أشبه بعملة ذات وجهين: من جهة، وجه إيجابيّ يرتسم من خلال فهم اللعبة وغربلتها والنظر منها إلى الأمام، ومن جهة أخرى، وجه سلبيّ ناتج من "الدَّيْن" الذي يغدو حملاً ثقيلاً لا يستطيع أحد إيفاءه، ومن الممكن أن يؤدّي إلى "الإفلاس" والشعور بالذنب والإحباط. هنا يأتي دور "البنوّة" السليم في تحويل السلبيّ إلى إيجابيّ، والنقمة إلى نعمة، والداء إلى دواء.
هذا الدور المهمّ والاستثنائيّ الذي يطرحه الكتاب، تغدو الحاجة إليه اليوم أشدّ وأقوى في مجتمعنا اللبنانيّ المتخبّط منذ عقود داخل سلبيّات "التملّك"، و"التسلّط"، والتطرّف"، و"التوريث"، والمطمئنّ في هجعته إلى التقليد والتقييد، خصوصاً على صعيد التربية والدين والسياسة.


¶ يحاضر بول سعادة، الدكتور في علم التحليل النفسيّ من مونبيلييه، تحت عنوان "أن نعطي ما لا نملك، هذا هو الحبّ"، الخميس 13 آذار السابعة مساء في "غاليري سينتيا نهرا"- فرن الشبّاك.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم