السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

أدال الحوراني "قبلة مؤجلة": شاعرة الغرابة!

ربيعة أبي فاضل
أدال الحوراني "قبلة مؤجلة": شاعرة الغرابة!
أدال الحوراني "قبلة مؤجلة": شاعرة الغرابة!
A+ A-

هذه شاعرة غريبة، وما أَغربَ العنصرَ الشَّفَّافَ فينا، وما أكثرَ أَعماله المجهولة، لدينا، كما قال جبران لمي زيادة، في 28 كانون الثَّاني 1920. وإِذا كانت حياة جبران بعضها بين النَّاس، وبعضها الآخر في الضَّباب، فإنَّ حياة أدال الشَّاعرة لم تستقرّ بعد، على حال، فلا هي اكتفت بفرح الحياة، ولا هي انتهت غريبة، مستوحشة، مستوحدة، مطمئنَّة في صمتها. لذلك، لم تنته النُّصوص الشعريَّة ("قبلة مؤجّلة" دار نلسن)، كما صاغتها، وظلَّت تعاني الفراغ، والغياب، والغربة، وأحيانًا كثيرة الشَّوق، والتَّوق، والحنين إلى النَّقيِّ، الجميل، في عالم الموت والعويل!

هذه طفلة صدمتها تناقضات الوجود، وتوهَّمت أنَّ أحلامها ستبقى بلون الفجر، أَو ستنمو، وتطير، وتصير حقيقة، في عالم لم يعد يُبالي بالنُّبل، والبساطة، والجمال. تساءَل فرويد، في كتابه (L’inquiétante étrangeté) من أين تأتي الغرابة المثقلة بالقلق، بالصَّمت، بالوحدة، بالعتمة؟ ورجَّح في الجواب، أن تكون الأزمة ناتجة، ليس من الفكر، والشُّكوك، لكن من اليأس الّذي يهزُّ دخيلة الطِّفل. وأَن يشعر الطِّفل بالقلق، والحيرة، واليأس، إِنَّما يعني انحلال الحضارة، وفوضى متسلِّطة على الوجود، وحبًّا صار دخانًا!

قالت أدال: "سئمتُ عواصف الأيَّام/ قربانَ الانتظار/ أَتسلَّقُ موجةَ النِّسيان/ أُبحرُ تَتبعُني الحروفُ/ فوقَ نبض الأَلوان، والأَلحان، أُودعُ ما تبقَّى من أَحلام/ في انتظارِ يقظةِ الوعود!". أضافت: "لو كان القدرُ قلبًا يُبصرُ/ كنتُ عانقتُ أَطفال الطَّريق، ومعًا دخلنا الملكوت!". هذه الطِّفلة تشعر بالغرابة، وبنوع من السَّأم، فلا هي تحيا الحياة، لكونها موجعة، ولا هي تسكن الضَّباب، كما جبران، لكونها تتهيَّب بإزاء المغامرة البعيدة، فتوجز، وتقع تلقائيًا، عندما تطير، وإِنَّما العجيبات بالبعيدات، ولا تزال غرابتها تحلم بمجاز تكون فضيلته نقلنا إلى غير المتوقَّع!

حسَبَ ابن رشد، في هذا المقام، أنَّ الغرابة تتمُّ "بإخراج القول غير مخرج العادة"، والطِّفلة الغريبة أدال، شاعرة، نجحت، في ذلك، وأَعطت جديدًا، مضيئًا، ولو في مناخ من الإغراب، والغياب، والتَّرحُّل، هربًا من اللَّحظات العاديَّة الجارحة، وبحثًا عمَّا يُشبه الوهم الجميل، أو الخفاء، هربًا من الجليِّ الرَّاعب! بقي لهذه الطِّفلة لعبةٌ وحيدة هي القلم تُحمِّله الهموم، وشغف النُّجوم، وتناديه في ملجأِها، وفي أَسفارها، في ضجرها، وفي تخييلاتها، وتوقظه في لحظات العطش، ويوقظها في ذروات اليأس، لتُشعل نارًا في حلم الأساطير، والصَّلوات، أو لِتَتلقَّى، من الشَّمس، تحيَّةَ الصَّباح!

"سأمضي/زهرةً بريةً/ أبحث عن قصيدة عذراء/ تسكن وجه الماء/ كي تراني".

ومَنْ يسكن وجه الماء غير جمال نَرسيس العاشق حتى الغوص في الأَعماق؟! ومَنْ يبحثُ عن قصيدة بين الغيوم، تردُّه طفلاً، غير المتبرِّم من تجارب الحياة الدُّنيا؟!

هذه الطِّفلة الّتي كَسرت لعبتها الأُولى – الجسد، وكَسرتِ الثَّانية – العبارة الشِّعريَّة، فأَقامت حلفها الغريب بين اللَّهب والماء، بَحثتْ، في باكورة شِعْرها، عن لعبة ثالثة تلجأ إليها لِتُكمل اللَّعب، لتُبعدَ الموت عن بَسْمتها، لتَرقص الڤالس تحت المطر، لتجعلَ الوهم حقيقة، وَهْمَ الواقع وحقيقةَ الخيال. ولأَنَّ الكلمات الّتي تُكتب تموت، بقيتِ الطِّفلةُ الشَّاعرة في ذروة قلقها، يحوط بها الفراغ الغنيُّ بالمفاجآت، والدَّهشة، والبكاء الّذي يمزِّق الأَشياء، يُفجِّرها من جديد!

هذه الطِّفلة النَّاضجة راكمت تجاربَها على الورق، وقدَّمتْ لنا غرابتها هديَّة كي نتعلَّم اللَّعب، وتفتيت الأَشياء، فلا نقف على الرُّتوب، والمكرَّر، والمألوف، والمعروف، واليوميِّ. إنَّها خرجت على النَّحو البليد، وعلى النَّظم البارد، واستثمرت كلَّ حرِّيتها لتلعب حتى النَّفس الـمُثير، لعبةَ الجسد، والقصيدة، والزَّمان الآتي، من خلال رؤية تُغلِّف العنفَ باللُّطف، والمرارة بالعطف، والعبث بالحلم، والتَّخريب بالتَّوقُّع، واللُّغة بالاستعارات، والصُّور، والأَساطير الطَّالعة من الذَّات، بدلاً من امتصاص الثَّقافات، والاستعانة بِمُعانيات الآخرين، وإيقاعاتهم.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم