الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

كندا أقرَب

المصدر: "النهار"
باسم عون
كندا أقرَب
كندا أقرَب
A+ A-

عندما يأتيك ابنك، متذلِّلًا، مطأطئًا رأسه وهو يقول لك بمنتهى المَسْكَنة: "بابا... بلييييز، بدّي كلب زغير". إيَّاك أن تضعف أو تستجيب. بل كُن رجلاً صارماً حازماً، وقل له: "أنا فيكُن مش قادر قيم. ناقِصني كلب؟ لا لا لا". 

وعندما يستَدرِك قائلاً: "أنا سأهتم به. أنت لا تقلق. سأطعمه وأغسله وآخذه كلّ يوم ليقوم بحاجته"... فلا تصدّق يا عزيزي كلَّ هذا الهراء...

ولكن في النهاية، إذا ما اجتمع عليك من وهَبَهُم الله لك -في اللّيالي اللّيلاء- وحاصرتكَ العيون المتوسِّلَة المُستَجديَة من كلِّ جانب، مُتسلِّحةً بِمباركَةِ "وزارة الداخليّة" شخصيًّا، ولمسْتَ في عزيمتِكَ بعضَ تَراخٍ، فقُلتَ: "طيّب ماشي الحال، مِنشوف". فاعلم يا صديقي أنّ ذلك النّهار الذي شهِدَ تلك النَّعَم "الثانية" في حياتك، سيكون آخر عهدٍ لكَ بالرّاحة...

لقد صَحّ بي -وأنا أُسْدي هذه النصائح- ما صحَّ بذاك الطبيب الذي لم يستطع تطبيب نفسه... وأتى الكلب الصغير بأسرع من المُرْتَقَب. فكان هرجٌ ومرجٌ وتدافعٌ، فاستئثارٌ بالغنيمة... وانضمّ إلى العائلة فردٌ جديد.

مرّت الأيّام الأولى على هذا الحدث الجَلل بِسلاسَة فائقة. فغدا "غوفي" -وهو الاسم المعطى للكلب- كعريسٍ في شهرِ عسلهِ، معزَّزاً مكرّماً، تتداوَلُه الأيْدي والأحضان. فما كان منه إلاّ الإفراط في الدّلال.

غير أنّ "غوفي" لم يكن لِيعبَأَ بي وسط كلّ هذا الاهتمام. فأصابني منه ما أصاب ذلك الشاعر القائل:

عرف الحبيبُ مكانهُ فتدلّلَ وقَنَعتُ منه بموعِدٍ فتعلّلَ

ما همّ! فالأولاد في غاية السَّعادة، والضَّحَكات لا تفارق البيت، احتفاءً بالوافدِ الجديد...

غير أنّ السَّأمَ "البودليريّ" ما لبثَ أن تسلّل رويداً رويداً إلى القلوب الصغيرة، ممّا جعل "غوفي" يطلب مساعدتي لأخرجه في النزهة اليوميّة ليقضي حاجته، نظراً للتقاعس المستجِدّ بين عشّاق الأمس.

ومرَّ شهرٌ، فشهرانِ، ثمَّ ثلاثة، كانت كافية ليتعلَّم المخلوق الصغير أنَّ العاطفة وحدها لا تكفي. فثمَّة التزامات. لذلك فقد التفَتَ إليّ -أنا الوالد لأربعة- عملاً بالقول المأثور: "لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة إنّما هناك مصالح دائمة". فأيقنتُ للحال أنّني أصبحتُ والداً لخَمسة!

بعد مرور سنة، كان الجميعُ قد تبرّأ من "الخامس"! ففكّرت بإهدائه لأحد معارفي من ذوي العواطف الجيّاشَة. وكأنَّ الضّحيّة قرأت ما في تفكيري، فبدا الحزن جليًّا في العينين الكلبيّتين، واجتاحني شعورٌ بالذّنبِ مُخيف... فوأدتُ الفكرة قبل الحَبَل المشبوه.

يقولون إنَّ على المرءِ أن يرى نصفَ الكوبِ المَلآن عِوَضاً عن النِّصف الفارغ. حسناً، سأحوِّل نُزهتي مع الكلبِ صباحاً إلى فسحةٍ من التفاؤل والتَّأمّلِ في ما وهبنا الله من المخلوقات. وهل ألطفُ من رفقة الكلبِ، وهو رمزُ الإخلاص والأمانة، في زمن قلّ فيه المُخلِصون؟ فأنا، وإنِ اتّهمته مسبقاً بأنّه "مصلحجي" إلاّ أنّ ذلك غيرُ صحيحٍ البتّة. وأكادُ أجزمُ بأنَّهُ المخلوقَ الوحيد -باستثناء زوجتي، طبعًا- الذي يحُبُّ بِلا شروط، ومن دون مقابل...

أمّا النُّزهة المسائيّة فستكون فرصةً لمراجعة أحداث النهار، بعيداً عن ضوضاء الانشغالات اليوميّة والقلق الذي لا ينفكّ ينهشنا، ذاك القلق الذي طالما حسدتُ "غوفي" على خُلُوِ عالَمِ الكلاب منه.

وأقبل الشتاء، وبكت على الصّيف أمّه، وبكيت عليه أنا أيضًا... وغدا الكوب الـ"نصفُ ملآن" فارغاً بالكامل... فاقبلتُ على النشرات الجوِّيَّة أستطلعُ فيها أحوال الطقس، مُتحيِّنًا الفرصة بين سحابتين لأنجوَ بنزهةٍ غير ماطرةٍ، فينجوَ الكلب من البلَل، ويسلمَ السَّجاد المنزليّ من رواسِبَ غيرِ مستحبَّة.

الرّيح في الخارج في مهرجان حقيقيّ، والأمطار تَهْمي منذ الصباح من دون توقّف، ما جعل الطرقات أنهاراً. وفي الداخل تعربد النّارُ في كنَفِ المِدفأةِ غيرَ عابئةٍ بغضبِ الطبيعة.

وليس أجمل، والحال هذه، من الالتحاف بعباءةٍ صوفيَّة قربَ الموقدِ، وفي اليدِ كتابٌ يصارعُ من أجل البقاء في وسط هذا العالم التكنولوجيّ الذكيّ جدًّا... وإذا بِـ"غوفي" يَجدُّ في طلبِ الخروج... يا الله ما العمل؟! الخروج مستحيلٌ في هذا الظرف! والانتقال من قرب المدفأة إلى حضن العاصفة دونَهُ محاذير جمَّة، أقلَّها الإصابة بنزلةٍ صَدريَّةٍ، فمرَضٍ ففِراش!.. إنّها لمشكلة حقيقيّة...

...وماذا لو خرج "غوفي" وحده؟ لقد زعَمَ أحدهُم أنّ كلباً لهُ كان قد تُرِكَ في إحدى القرى على بُعد أكثر من عشرة كيلومترات، بغيةَ التَّخَلُّصِ منهُ، إلاّ أنَّ الكلبَ عاد في اليوم التالي إلى منزل صاحبهِ برغم بُعدِ المسافة. أجل، فكلبيَ لَن يضيع، سوف يقضي وطَرَهُ سريعاً ويعود... لا بُدَّ أنْ يعود. بل ربَّما كان الوضعُ مناسِباً له من جهةِ الخصوصيّة، بعيداً عن نظر الرَّقيب!

فتحت الباب خِلسَةً وأخرجتهُ، ثمّ تركته على مقربةٍ من المدخل، وعدت إلى الداخل... وانتظرت. وبعد خمسِ دقائقٍ خِلتها دهراً، عاد صاحبنا كصيّادٍ قديمٍ داهمتهُ عاصفةٌ بحريّة. وبعدما أصلحتُ من شأنه، عدت إلى مقعدي الوثير قرب الموقد وعلى شفتيّ ابتسامةُ الرِّضى.

وأخيراً انتظمت الأمور على هذا النحو، وأصبح صاحبنا يخرج وحيداً، بتواطؤ ماكرٍ مع ربِّ الأسرة. وطبعاً بدون علم أحدٍ من الغَيَارى في الدّاخل. إلى أن جاء ذلك اليوم...

خرج "غوفي" كعادته، وانتظرت... انتظرت العودة الميمونَة، ولكن من دون جدوى. مضت ساعةٌ ولم يعُد! فخرجتُ في إثْرِه وقد بلَغ مِنّي الغضبُ كلّ مَبْلَغ، وتجلّى بألوانٍ من الشّتائم واللّعناتِ التي طغى فيها المُبتَكَر على المألوف. أَدرتُ محرِّكَ السيّارة وانطلقتُ في رحلةِ بحثٍ يشوبها القلقُ وتجلّلها الخَيبةُ وعقدة الذنب. لم أترك زقاقاً إلّا ودخلته، ولا فُسحَةً إلّا وزُرتَها، لكن عَبَثاً. وبعد ساعةٍ، عدتُ مهزوماً كئيباً، ألوم نفسي على ما أبديتُهُ من ثقةٍ زائدةٍ في ذلك المشروع التّافِه الذي اعتمدته.

دخلت مخدعي ورحت أعلِّل النّفس في البحث غداً. وقلت لزوجتي "يمكن هيك أريحلك. مش ناقصك شغل". ولكنَّ الخبر وصل إلى الأولاد جميعاً غبّ رجوعهم إلى البيت. فلا تسل عمّا اعترى الوجوه من الاكفِهْرار والعتبِ المُبطَّن والامتعاضِ السافِر. كانت الساعة تقارب الحادية عشرة ليلاً، وبرغم ذلك انطلقوا في رحلة بحث جديدة...

كان نومي في تلك الليلة لِماماً. وقبل الفجر بقليل استفقت على جلبة في غرفتي:

- انظر! لقد وجدنا الكلب! هذه صورته، أرسلوها لنا... أنظر كم هو حزين!

وأخبروني بقيَّة القصة: بعد أن استمرّوا في رحلة البحث لأكثرَ من ساعتين بدون جدوى، قرّروا أن يضعوا إعلاناً على وسائل التواصل، تتصدّره صورة جميلة للعزيز المفقود. وإذا بمئاتِ المبادراتِ من التعاطف تنهالُ من جميع المناطق داخليًّا وعالميًّأ أيضًا! ومن بينها رسالةٌ أتت من مغتربةٍ في "كندا"، تقول: إنّ أمَّها في لبنان في قرية كذا، قد أخذتها الشَّفقة على كلبٍ شاردٍ يرتجفُ تحت المطر، فيما كانت تنزّه كلبتِها، فما كان منها إلّا أن اصطحبته معها إلى شقّتها، ريثما يطلع النهار فتنظرَ في أمرهِ. وقد أرسلَتْ إلى ابنتها المُغْترِبة صورةً التقَطتْها للضَّيفِ الحزين.

وبعدما طلبتِ المغتربةُ تفاصيلَ أكثر بشأن العزيز المفقود، مِمَّن يدَّعون ملكيَّتَهُ، وصولاً إلى أوراقِه الثبوتِيَّة والـCahier de santé، وبعدَ التأكّدُ من حيثيّات الموضوع، أعْطَتهْم عنوان أمِّها، حيث أمضى الضيف ليلته في الصالون معزّزاً مكرّماً.

أمّا المفاجأة الكبرى فكانت، أنّ العنوان المُرْسَل من كندا من خلال مواقِعِ التّواصُل، لَم يكن إلّا على مسافة خمسين متراً، ليس أكثر، من بيتِ "غوفي" الأبويّ!

وعند الصّباح، أُقِيمَ للضَّيفِ العائدِ استقبالٌ مَهيبٌ، تخلّلهُ شكْرٌ على نعمةِ التكنولوجيا الذَّكيَّة التي كانت سبب عودته. تلكَ التِّكْنولوجيا التي جَعَلتْ الجيرانَ المقيمينَ على بُعد أمتارٍ فقط بعضهم عن بعض، يتعارفون.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم