الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

الأكاديمية وزّعت الـ"أوسكار": التمثال الذهب أسمر اللون!

A+ A-

الملايين تسمروا أمس أمام شاشاتهم لمتابعة الحفل الـ86 لتوزيع جوائز الـ"أوسكار" الذي جرى في مسرح "دولبي" (لوس انجليس). أكاديمية الفنّ السينمائي وعلومه أسندت الى مجموعة من الأفلام التي اعتبرتها الأفضل في السينما الأميركية طوال العام الماضي، تماثيل ذهبية براقة في أمسية قدمتها الفكاهية آلن ديجنرز. "جاذبية" لألفونسو كوارون كان الرابح الأكبر في الحفل فانتزع سبع جوائز من أصل عشركان ترشح لها. مع ذلك، قُطع الطريق أمامه لنيل جائزة أفضل فيلم، اذ سلبها منه "12 سنة عبداً" لستيف ماكوين. وهو الفيلم الذي نال ايضاً أفضل سيناريو مقتبس (جون ريدلي) وأفضل ممثلة في دور ثانوي ذهبت الى لوبيتا نيونغ ذات الثلاثين عاماً.


ماكوين يعبر المحيط
"12 سنة عبداً"، هو فعلاً أفضل فيلم والأكثر تماسكاً من بين العناوين العشرة التي وصلت الى نهائيات الـ"أوسكار". المصوتون لم يخطئوا هذه المرة، كما فعلوا في سنوات ماضية، عندما صوتوا مثلاً لـ"شكسبير مغرماً" وأسقطوا من حسابهم رائعة تيرينس ماليك "الخط الأحمر الرفيع". ستيف ماكوين (1969)، الذي سبق أن أبهرنا بفيلمين بديعين هما "جوع" (2008) و"عار" (2011)، كتلة مواهب متجانسة في فنان واحد. يمتلك موهبة نبش قبور التاريخ، مع براعة تشهد له في فتح نقاش خلناه طُوي إلى الأبد، من مثل دور بوبي ساندز في الجيش الجمهوري الإيرلندي أو العبودية في أميركا التي تلقفتها السينما في المرحلة الأخيرة. أفلامه تشبه قوافل قطار تخرج من عتمة النفق لتدخل محطة مضيئة. عند الإنسان الذي يصوّره ماكوين لا حاجة إلى جدران، فهو يجد نفسه محصوراً بألف علة وعلة تعوق عملية تحقيق الذات وبلوغ الحرية. جسد الإنسان المقهور سواء جوعاً او مرضاً او تنكيلاً هو سجّانه. هذه الفكرة دارت عليها أفلامه الثلاثة التي انجزها الى الآن.
تدور أحداث "12 سنة عبداً" في مرحلة ما قبل اندلاع الحرب الأهلية في أميركا. يُخطف سولومون نورتاب (شيويتيل أجيوفور) ويُباع كرقّ. هو الذي كان ربّ أسرة من طبقة ميسورة الحال، يُزجّ به في العبودية من دون أن يعرف ماذا يحصل له. يلقى به في أحد مزارع القطن في نيوأورليانز. لـ12 عاماً سيبقى عبداً، قبل أن يعود الى الحرية مجدداً بعد لقائه بأحد المناهضين للعبودية (براد بيت). الفيلم بأكمله غوص في يوميات سولومون المعذبة، وآثار التنكيل بالجسد والروح. سيدفع ثمن حريته باللحم الحيّ. هذه المرة، ينجز ماكوين فيلماً فاتورته كلاسيكية تهيمن عليه النزعة الميلودرامية العاطفية. النمط الذي يتبناه لسرد الأحداث يذكّرنا إلى حدّ ما بـ"اللون البنفسجي"، لكنه أشد إيلاماً من فيلم سبيلبرغ بالنسبة إلى شخصياته وأكثر قسوة للمشاهدين. البنية الدرامية هي الأخرى تختلف عما سبق أن قدمه. يمكن القول ان "12 سنة عبداً" فيلم هوليوودي (ليس بالمعنى المحقّر المستخدم أحياناً) مشغول بنزاهة عالية وقدرة معينة على الإمساك بضلوع المشاهد طوال 134 دقيقة. كلاسيكيته هنا معطوفة على شيء من الحداثة وممسوكة بقبضة من فولاذ، لا تحتوي على زلة ولا تسعى إلى استدرار العواطف بطرق رخيصة. ما يقترحه ماكوين هو نموذج سينمائي حيث اللجوء إلى العقل لا يكبح المشاعر، ويتيح لصاحبه أن يبقى مخلصاً لهواجسه، وفي الوقت نفسه يجعله متجدّداً وصادقاً ومفعماً بالأمل.
فيلم ماكوين كان يستحق جوائز أخرى أيضاً، وفي مجالات عدة، لكن الأكاديمية فضلت المحاصصة هذه المرة وعدم ابراز بطل أوحد للأمسية المهيبة. كان يمكن اسناد أفضل صورة أيضاً لشون بوبيت، ولكن جاء مَن هو أكثر براعة منه (ايمانويل لوبيجكي ــ المصوّر المعتمد لدى تيرينس ماليك منذ ثلاث أفلام). أو كان يمكن منحه جائزة الأزياء التي لم تفلت من "غاتسبي العظيم" لباز لورمان، واحد من أسوأ أفلام العام الماضي. ولكن، يبقى ان هذا انتصار معنوي وانساني وسينمائي كبير لهذا البريطاني (ماكوين) خلف الأطلسي، حبذا ان لا ترميه موجات السينما الأستهلاكية في احضان مشبوهة، كما حصل مع كثيرين قبله عندما وطئت أقدامهم مصنع الأحلام في أميركا. أياً يكن، ففوز ماكوين يُعدّ سابقة في مجاله: انه أول مخرج أسمر البشرة يحمل تمثال "أفضل فيلم" في يده. التمثال الذهبي أسمر اللون هذه المرة!



"جاذبية": خطاب بصري
من حيث عدد الجوائز المقتنصة، حلّ "جاذبية" لألفونسو كوارون في المرتبة الاولى: أفضل مخرج (كوارون أول مخرج مكسيكي ينال هذه الجائزة)، أفضل تصوير، أفضل مونتاج، أفضل موسيقى، أفضل مؤثرات بصرية، أفضل توليف صوتي، أفضل ميكساج صوتي. واذا كان يُمكن مناقشة مضمون الفيلم من وجهات نظر عدة والتصدي للكثير مما يترك المشاهدين أمثالي سلبيين تجاهه، فالأكيد ان الجانب البصري والتقني الباهر للفيلم يفلت من هذا النقاش. كوارون وفريقه تفوقوا في هذا المجال.
نرى في "جاذبية" رائد فضاء مخضرم (جورج كلوني) يصبح أسيراً للفضاء غير المحدود مع زميلة له متخصصة في الهندسة الطبية (ساندرا بولوك). هذا كله بعد كارثة يتعرض لها طاقم المهمة تؤدي الى تحطم المركبات واحدة تلو الاخرى، وصولاً الى المصيبة الكبرى المتمثلة في انفصال الشخصيتين، لواحدة عن الاخرى، والتحدي الذي سيكون على كل منهما القيام به للنجاة والعودة الى الأرض. هناك حكاية القمر الصناعي الروسي الذي يتسبب بالعطل، لكن لا نصدّق لدقيقة واحدة هذا العنصر المقحم، ليس لأننا لا نراه بأمّ عينينا، بل لأن المسألة تبدو مفتعلة. ما كان مهمة روتينية، سيتحول الى أبوكاليبس فضائي، بحيث ان الهمّ الوحيد سيصبح الصمود في وسط اللامكان والخراب، وطبعاً التغلب على الظروف الطبيعية، كنقصان الاوكسيجين او انعدام الجاذبية.
مشكلة كوارون في خطابه الهزيل، والأصح القول ان خطابه بصري أكثر منه فكرياً فلسفياً ميتافيزيقياً. المضمون يتيه في زحمة الجماليات التي يطرحها في الفضاء الواسع ويذوب في قِدر المؤثرات البصرية. حتى هذا الجانب الشكلاني المشغول بعناية فائقة لا يصيب القلب بل يبقى ملهاة بصرية. هذا فيلم، خطيئته الأصلية انه يريد ان يرفع رأسه أكثر مما يتيح له السقف. ستانلي كوبريك، المخرج الذي انتشل علم الخيال في السينما من المنحى الترفيهي، فتح هذا الجانر على الغموض والأسئلة والقلق من المجهول والاغواء. اما كوارون، الذي لا يملك بالتأكيد موهبة زميله الأميركي، فجاء بنموذج هوليوودي متهافت لتيمة الولادة الجديدة بعد تجربة قاسية. على الرغم من المساحة اللامتناهية المتاحة امامه، انجز كوارون واحداً من اكثر الأفلام "كلوستروفوبية" وانغلاقاً على ذاتها.


ثلاثة من خارج أميركا
على الرغم من المنافسة الطاحنة على جائزة أفضل فيلم أجنبي (واحدة من أهم الجوائز في الـ"أوسكار")، فالخيار كان ايطالياً. "الجمال العظيم" لباولو سورنتينو ــ الخاسر الأكبر في مهرجان كانّ الأخير ــ انتُخب أفضل فيلم غير أميركي لهذه السنة. هذا خيار مفهوم جداً لأن الفيلم يرفع تراثاً أوروبياً لم يعد له حضور في سينما اليوم. هذه العودة الى نمط مجيد في تقديم سينما قد تكون راقت لأعضاء الأكاديمية الكبار السنّ والبعيدي الذكريات. الفيلم برمته مأخوذ من وجهة نظر صحافي (أداء جبار لطوني سرفيللو) يتسكع في ليالي روما المجنونة، يلتقي بهذا وذاك، من اصحاب المقامات الرفيعة في العاصمة الايطالية، ثم يتسلل الى شقته الفاخرة المشرفة على الكوليزيه. انه احد اسياد تلك السهرات حيث نجد رجال اعمال وسياسيين وعاهرات وفنانين وناساً بأشكال غريبة، من تلك التي تحبها السينما الايطالية.
يعرّي سورنتينو البورجوازية ويسخر من الثقافوية في روما بنبرة مستفزة تصل احياناً الى حدّ الفضيحة والنقمة المبطنة. تطارد الكاميرا الشخوص كما في سباق ماراتوني؛ لا تقف آلة التصوير عن الحركة، حيناً ترافلينغ أمامي وحيناً آخر ترافلينغ خلفي، ودائماً في مرصاده كرادلة مهووسون بالطبخ، فنانون فاشلون، وسيدات مجتمع ينتظرن في طوابير لإجراء حقنة بوتوكس. يحسن سورنتينو تصوير العمارات والحدائق والمراقص الليلية والمعالم التاريخية في ظلام روما الدامس. الصدمة قوية بين تقليد حواري راسخ في السينما الايطالية، وحداثة الامكانات التي تتيح لسورنتينو تنفيذ واحدة من أجمل افتتاحيات تاريخ السينما.
ثلاثة من الذين صنعوا الحدث الأوسكاري أمس، بعدما وصلوا الى مواقع متقدمة جداً من لائحة الجوائز هم من غير الأميركيين: ستيف ماكوين بريطاني، ألفونسو كوارون مكسيكي، باولو سورنتينو ايطالي. لن نكرر ابداً إلى درجة الاكتفاء أن هنا سراً من أسرار هوليوود، وأن هنا عظمتها وفرادتها وقدرتها على جعل الأحلام ممكنة. وهذا ما قالته في كل حال الممثلة الكينية لوبيتا نيونع عندما صعدت الى المسرح لتسلم جائزتها: "من أينما جئتم، الحلم هنا مسموح!".


ليو على خطى بيتر
الجائزة التي ذهبت الى أفضل ممثل وأفضل ممثلة خرقت التحالف الثنائي الرابح ماكوين ــ كوارون. فكايت بلانشيت حملت الى بيتها ثاني أوسكار في مسارها بعدما كانت فازت بواحدة عن دورها في "الطيار" لمارتن سكورسيزي. بلانشيت انتزعتها من ميريل ستريب التي رُشحت 18 مرة على مدار حياتها ونالتها ثلاث مرات. هذه المرة استحقتها بجدارة عن "بلو جازمن" لوودي آلن، الفيلم الذي قدمت فيه اداء مدهشاً مجسدةً امرأة هستيرية على حافة الانهيار العصبي تذكّر قليلاً ببلانش دوبوا في مسرحية "عربة تدعى رغبة" لتنيسي ويليامز. لدى تسلمها الجائزة، شكرت بلانشيت كل زميلاتها اللواتي نافسن على جائزة "أفضل ممثلة"، واحدة واحدة، وقالت ان المنتجين في اميركا متحفظون تجاه الأفلام حيث تؤدي المرأة دور البطولة.
"أفضل ممثل" لقب حمله ماثيو ماككونوغي عن دوره البارع في "نادي دالاس للمشترين"، حيث قدم دور رون وودروف، لاعب الروديو المصاب بالايدز الذي يؤسس نادياً لمساعدة المصابين بمرض فقدان المناعة عبر تهريب الأدوية غير المسموح بها في أميركا، وتوزيعها، بعد الاكتشاف أن لها تأثيرات ايجابية على المريض. هذا الفيلم الذي أخرجه الكندي جان مارك فاليه (له فيلم "كرايزي" البديع) أتاح ايضاً لجاريد ليتو، شريك ماككونوغي، ان ينال "اوسكار" أفضل دور ثانوي. ولضرورات الفيلم، تحول الاثنان تحولاً لا يمكن التعرف إليهما (خسر ماككونوغي 30 كيلوغراماً من وزنه) الأمر الذي اعطاهما فرصاً اضافية للفوز، علماً ان الفيلم واحد من أضعف الأفلام المرشحة. أما الخيبة الكبرى، فجاءت من عدم فوز "فعل القتل"، تحفة جوشوا اوبنهايمر بـ"أفضل فيلم وثائقي"، الجائزة التي انتزعها منه "20 قدماً من ستاردوم" لمورغان نفيل (لم نشاهده).
في سباق الـ"أوسكار"، كان هناك ثلاثة أفلام عربية: "عمر" لهاني أبو أسعد (أفضل فيلم أجنبي)؛ "الميدان" لجيهان نجيم (أفضل فيلم وثائقي)؛ "ليس للكرامة جدران" لسارة اسحق. لم يصل ايٌّ من هذه الأفلام الى الجائزة. ظلّ أصحابها أسرى السجادة الحمراء ككثر غيرهم اقتنصوا فقط مجد الربع الساعة الذي تنبأ به اندي وارهول. ليوناردو دي كابريو لم يكن أوفر حظاً منهم. فـ"ذئب وول ستريت" في فيلم سكورسيزي رُشّح لهذه الجائزة خمس مرات ولم ينلها يوماً. وحالما انتشر خبر استبعاده عن الجائزة للمرة الخامسة، تكاثرت النكات والطرائف في شأن خسارته اللئيمة. فهل يسير ليو على خطى بيتر اوتول الذي رُشح لثماني مرات ولم ينلها؟


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم