الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

الأزمة من خلال عدسة أخرى

مازن ح. عبّود
الأزمة من خلال عدسة أخرى
الأزمة من خلال عدسة أخرى
A+ A-

جمع عائلته، تطلّع في عيون صغاره، ونظر إلى امرأته؛ فقد اتخذ قرار المغادرة إلى بلاد بعيدة. عرضَ بيت أبيه للبيع وهو ما عاد قادراً على إعالة عائلته. فقد خسر عمله الأول وما عاد يتقاضى إلا نصف راتب في العمل الجديد. نصف راتب لا يعيل عائلة، ولا يسد قوتاً، ولا يؤمّن للأولاد التعليم والخدمات. في الصالون صورتان لأمّ وأب غادرا. تطلع بهما جيداً ودمعت عيناه. فالحائط لن يعود حتى لهذه الصور بعد حين. والحيطان لن تحكي قصص من بنوها وأقاموا ذكريات تحت سقوفها. لن تحكي الحيطان قصصه وقصص أخوته. شعر بالنقمة والغضب وهو قد انتفض غضباً على الوضع. إلا أنّ ما يخرج من الإحباط يولّد إحباطاً كما قال شيخٌ مرة. قراراه ما كانا سهلين، إلا أنّ ما جرى ويجري ليس بالسهل. وهو ليس الوحيد الذي قرر أن يغادر. فعندما تضيق الأرض بناسها وتتحوّل الأوطان إلى سجون، يفرّ المسجونون من سجّانيهم بحثاً عن وطن، بحثاً عن عيشة أفضل، وبحثاً عن شيء فقدوه ولا يستطيعون أن ينالوه يا ولدي. يرحل الناس إحباطاً وقلقاً وهرباً. يهربون من ماضيهم ومن أنفسهم ومن واقعهم. ويمضون يبحثون في الأوطان المضيفة عن وطن فقدوه، فلا يجدونه. هو ما اختار الرحيل إنما الغربة نادته. فالغربة في الوطن سجن. الغربة في الوطن حزن. الناس تنتفض في الشوارع، وجلادوها وأنبياؤها الوهميون يقيمون في التلال. وهميون هم لأنّ غالبيتهم آمنت بقدراتها واستغنت عن أخيها، فصار الآخر رقماً في دفتر الحساب.

مسكين هو ومساكين نحن لأننا نشعر بالمرارة في كل أزمة. إلا أنّ للأزمات فمٌ من ذهب. فهي تعلّم وتوجّه وتغيّر ما لا يتغيّر. تُعلّمنا التواضع والبساطة. تبيّن لنا الأزمات كيف أننا اتكلنا على الوهم. تبيّن لنا مدى هشاشتنا وفقرنا وكيف أننا مددنا بساطاً من الريح اعتقدنا أنه ثابت. الأزمات تربي وتعلّم وتعيد هندسة طرق معيشتنا. الأزمات تجعلنا نتغيّر ونبدل ما لا يلزم من طرائق عيشنا. مؤلمة هي ولها انعكاسات كبيرة. من لا يتقبل الأزمات والتأديب لا يكبر. مكلفة هي كثيراً علينا وعلى الناس. فالبلد سيخسر أفضل ما عنده من كفاءات وعناصر وقدرات. فالتغيير يحتاج الى أثمان وتنهدات ودموع كثيرة. تُعلمنا الأزمات الاتكال على أنفسنا والعيش في الواقع لا في الوهم. تزعزع إيماننا بآلهتنا وتخرجنا من دوائر راحة ما عادت موجودة، وكان يصعب علينا مغادرتها في الأيام العادية. الأزمات تكشف الرجال عن أشباه الرجال.

بلدنا كان يعيش في كذبة يا ولدي. والكذبة تضخمت كثيرا على حساب الواقع. تقلص إنتاجنا وتزايد إنفاقنا. نمت البنوك على حساب الكروم والمصانع. وتحوّلت الجامعات إلى متاجر. أدمنت الناس على الحياة السهلة والكسب السهل. فصرنا نفتش عن الربح السريع والنمو السريع والحياة بدون عرق، فزال سلامنا.

أتت الأزمة كي تنهضنا من كبوة طالت، ومن زبائنية وعقلية تدهورت. تلزم الأزمة يا ولدي كي نقول عن السارق سارقاً، ولا نعود نوصّف بالشاطر الذي لا يجب أن يموت. أتت الأزمة كي لا نقبّل اليد التي لا نستطيع عضّها ومن ثمّ نسأل بكسرها سراً. أتت الأزمة كي لا نرمي بالبحر. الأزمة تلزم يا ولدي كي نكتفي بالحلال، وكي تصير الإكرامية من الممنوعات. تلزمنا هي كي نعرف بأنّ صوتنا لا يباع ولا يشترى في الانتخابات مادياً أو معنوياً. أتت كي يعود صوتنا في الصناديق شهادة لما نعتبره حقاً. أتت كي تستعيد الولاء والوفاء من الزعيم وتضعهما في سلة الحقيقة.

تلزمنا الأزمة كي نستبدل الزعامات القوية بالدولة القوية. فلا نعود نتكل على هذا أو ذاك. ولا نعود نعيش في ظل هذا أو ذاك. تلزمنا الأزمة كي تعلو أصواتنا وننطق بقناعاتنا ونحرر ألسنتنا من سطوة جيوبنا ونعيدها إلى كنف ضمائرنا. تلزمنا كي نستهلك ونشتري فقط ما يلزمنا. تلزمنا كي نزرع كرومنا المهجورة. تلزمنا لأنّ ما كان يفيض عنّا كنا نرميه في القمامة وليس حتى للكلاب. تلزمنا كي نتحكّم بأطماعنا ونزواتنا ونعيد تسطير أدائنا.

تلزم الأزمات يا حبيبي كي تصنع من البهائم الناطقة بشراً حقيقيين. تلزم كي نصير أناساً نتألم ونشعر بألم غيرنا فنعيد بناء شبكات تضامننا الإنسانية والاجتماعية المتصدعة. تلزمنا كي نرتعد فلا نعود نسجد لوُلاتنا ونقوّم اعوجاجات أنظمتنا المالية والنقدية والاقتصادية والسياسية والمعيشية الهشّة. فنعود ببساطة إلى مبادئنا وأخلاقنا وطرق عيشنا. تلزمنا كي ندرك أهمية الباب الضيّق وأهمية العمل ورذالة الهوان.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم