الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

خيمة "ألف وأخواتها"... تمرّدوا على الجهل فالتحقوا بصفوف محو الأمية في طرابلس (صور)

المصدر: "النهار"
جودي الأسمر
خيمة "ألف وأخواتها"... تمرّدوا على الجهل فالتحقوا بصفوف محو الأمية في طرابلس (صور)
خيمة "ألف وأخواتها"... تمرّدوا على الجهل فالتحقوا بصفوف محو الأمية في طرابلس (صور)
A+ A-

منذ تسمية حسان دياب رئيسًا للحكومة وبدء التشكيلات، يتخذّ المشهد الثوري بيروت مسرحًا يكاد يكون حصريًا للحراك المناهض للسلطة الذي يتركّز في ساحة النجمة والمحيط، وبموازاته حملات متقطعة ضد البنك المركزي. لكن انكماش أعداد الثوار في المناطق والذي ينسحب على طرابلس، يدعمه ما قد يسمّى بنزوح مجموعات من الثوار من ساحة النور إلى ساحة الشهداء، الأمر الّذي يجعل سؤال "هل انطفأت الثّورة في عروس الثورة؟" الأكثر تداولًا في ساحة صارت شبه خالية، فيما كانت تحتضن الآلاف في بداية الانتفاضة. ويفرزُ هذا السؤال ارتدادات تنقسم اليوم بين راغبين بفتح مداخل ساحة النّور بسبب أزمة السير التي يسببها إغلاق خمسة شرايين في المدينة، فيما يعتبر الملازمون للساحة بأن عدم إغلاقها مؤشر على أن الانتفاضة مستمرة.

كنتيجة، انحسار الأعداد حوّل ساحة النور إلى معرض لهواجس الفقراء. لقمة العيش يقصدها باعة العربات المتجولة. لقمة الطعام يقصدها جياع في خيمة توزع الأطباق. حملة روشاتات أدوية يطلبون العون. متسولون يمدون أيديهم. لكن القتامة المهيمنة في قلب الساحة، تخرقها عند الهوامش خيطان أمل ولو رفيعة، تؤسس على مدى أطول لأثر إيجابي يُغالب الأهوال الاجتماعية التي تكابدها طرابلس منذ عقود. فمكتبة الثورة تستمرّ باستقطاب القراء، وندوات التثقيف المدني والتنوير السياسي لم تنقطع يومًا.

وفي مبادرة رائدة، تستمر خيمة "ألِف وأخواتها" منذ أكثر من شهر في تنظيم صفوف محو الأمية لكبار ومتسربين من المدارس، في مدينة تسجّل نسبة تسرب مدرسي يبلغ ضعف المعدل الوطني (حسب دراسة عاطف عطية ومها كيال بعنوان "طرابلس من الداخل") وتشتد الآفة في بعل الدقور (التبانة التحتا) بنسبة 69% التي أعلنتها دراسة "البحث الاجتماعي السريع: طرابلس" عام 2009، والأرقام ليست إلى انحسار. هكذا تقدّم "ألف وأخواتها" عيّنة من محاولات طرابلس الذاتية التي يتولاها أفراد يساعدونها على مقارعة الفقر والتفقير وتفريط الدولة بحقوقها الانمائية والخدماتية.

مياومون يكافحون الأمية

"عبد الغني لن يأتي. أبيض (لقب تلميذ من التبانة) سيأتي. ماذا عن نذير؟" قبل بداية حصتها، تسأل بنبرة هادئة ومحبة الشابة صبا مسعود التي تطوعت لتعليم ثلاثة صفوف محو أميّة يستفيد منها شباب بين أعمار الـ14 و20 سنة، يأتون من المناطق المهمشة، غالبيتهم عمال مياومون، يلتحقون بالحصص بعد انتهاء دواماتهم ثلاث مرات أسبوعيًا. وتمنح المبادرة تعليمًا خصوصيًا لشقيقين ناهزا الستين من العمر، ولربة بيت ثلاثينية لم تلتحق يومًا بالمدرسة لكنها تريد تعلم العربية "وتتطور مهاراتها بشكل ملفت" تشير الناشطة مسعود.

لا تدخر هذه المبادرة جهدا ستة أيام أسبوعياً، تؤمن على مدارها التعليم البديل لـ25 تلميذاً ضمن أربعة صفوف، يتولاها مع المتطوعة مسعود الشابة جودي الأسود والشاب ابراهيم طالب. ينتمي الفريق إلى خلفيات غير مرتبطة بالتعليم، لكن اندفاع الشباب وإلحاح الحاجة دفعت هؤلاء النشطاء للتطوع في تعليم أفراد تلهفوا لتعلم حروف كانوا يجدونها طلاسم عصية على الفك.

ساعدت ثورة تشرين في تشخيص حالات الأمية وتساعد على معالجتها. تشرح صبا مسعود بأنها التقت قسمًا كبيرًا من المتعلمين في حلقات النقاش. لاحظ البعض أنهم لا يستطيعون قراءة المنشورات الموزعة، لكن يخجلون من الافصاح عن معاناتهم. إلى أن رغب أحدهم بالتعلم وصار الأقران يشجعون بعضهم بعضاً "حتى اليوم، البعض لا يريد أن يعرف أهله بأنه يتعلم لأنه يخجل من نظرة المحيط، فيتركون الأوراق والأقلام داخل الخيمة"، تضيف موضحة بأنّ الخيمة قاومت انهيارها ثلاث مرات بسبب العواصف فأعيد ترميمها، وتبرّع أصحاب المكتبات ومغتربون بتأمين القرطاسية ولوازم الصف.

بمواردها البسيطة، وبخيمة يغلفها النيلون ويهيكلها الخشب، عدّدت "ألف وأخواتها" الوسائط البصرية الّتي تساعد المتعلمين على فك الحروف: أيام الأسبوع معلقة على ألواح خشبية، لوح ملون يشرح الأشكال والألوان، رسومات... يتحلق ستة شباب حول طاولة البلاستيك بدفاترهم يتعلمون حرف "اللام"، يتسابقون في الاجابات، يسألون، يتقدم أحدهم نحو اللوح للكتابة. ولا تخلو الأجواء من نكتة لطيفة وضحكات تنفرج من أفواه الحاضرين. فيما يجول "ابراهيم" بين الشباب للتأكد من كتاباتهم، تحاول صبا أن ترسم لهم صورة ذهنية تطبع الحروف في ذاكرتهم "الغين كالمثلث. الباء لديها نقطة في الأسفل" وتختم "المرة القادمة سنجري إملاء ذاتيًا على خمس علامات"، ثم تنصرف بعدما أمطرها المتعلمون بأسئلة وتعليقات حول الإملاء الذين سيستعدون له.

من بين المتعلمين حالات تعكس إرادة عظيمة في هزم واقع تواطأت ضده العوائق، كحال مازن هاشم (37 سنة) من باب الرمل الذي يعاني شللًا نصفيًا لا يمنعه بل ربما يدفعه للمواظبة على الدروس "في طفولتي لم أكن أرغب الالتحاق بالمدرسة لكنني اليوم قررت أن أفهم ما يدور حولي". مازن الّذي كان يعمل نادلًا في قهوة موسى الشعبية يعيش اليوم بطالة بعدما طرده صاحب المقهى، حسب قوله، ليستبدله بعاملين يتقاضيان نصف راتبه. من الأمور الّتي يريد مازن فهمها، هي الرسائل التي تصله على الواتساب بينما يضطر لإطلاع شقيقته عليها لتقرأها. لذلك يخبرنا بأن حياته وعلاقاته بدأت تتمتع بسريّة كان يفتقدها قبل أن يتعلم القراءة والكتابة.

أما يحيى خالد (21 سنة) من أبي سمرا، مياوم في معمل صابون أهدى معلمته صابونة، يقول إنّ هذه الدّورة تؤثر على كلّ سلوكه "لقد تعززت ثقتي بنفسي بعدما أصبحت قادرًا على الاختلاط والتحدث ضمن مجموعات. في السابق لم أكن قادرًا على التفاعل مع محيطي بهذه السهولة. كنت أشعر دائمًا بحاجز يحول بيني وبينهم".

"مدرسة المشاغبين" تواجه تقاعس الدولة

صفوف محو الأمية التي تنظمها خيمة "مدرسة المشاغبين" تعبّر حسب القيمين عليها عن تكافل مع أبناء المناطق الأكثر حرمانًا، حيث تشتدّ الضائقة اليوم وتتضاعف التحديات. في حديثه لـ"النهار"، الناشط جيمي كرم الذي يعمل مستشاراً تربوياً في التعليم العالي ينقل الصورة المتكاملة عن المبادرة "حين كان الحضور الشعبي في أوجه، كنا أول خيمة نصبت في وسطية الحوار. فاستطعنا تدريجياً استقطاب هذه الفئة التي تركت المدرسة منذ المرحلة الابتدائية. ولا تنحصر مبادرتنا في صفوف التعليم، بل ساعدتنا المخالطة الميدانية في استشفاف حاجات راهنة وملحة دفعت عددًا منا للتطوع في تقييم السير الذاتية، ومساعدة الباحثين عن وظائف في كتابتها. ومتطوعون يهتمون بتقديم النصح والارشاد لمن يريد دعم وتطوير عمله الخاص في هذه الظروف القاهرة. وقمنا بتوزيع هدايا الميلاد للأسر المتعففة".

ويصف الانتفاضة بـ"الفرصة" التي تستثمرها "مدرسة المشاغبين" لمواجهة السلطة "اسمنا مقتبس من المسرحية المصرية الشهيرة حيث كان التلامذة فاشلين بنظر الادارة. قياساً، نعتبرها فرصتنا لنبرهن بأن انتفاضة 17 تشرين قادرة على تحقيق التغيير"، معتبرًا أن مبادرة محو الأمية "إنجاز" لا ينعكس فقط على مهارات الكتابة والقراءة، إنما يساعد المتعلمين على اكتساب استقلالية سلبهم إياها المحيط الذي يصادر قراراتهم في مفاصل عديدة". هؤلاء الأفراد لن يتلقوا بعد اليوم لوائح انتخابية يسقطونها في الصناديق بدون التعرف إلى أسمائها. صار من الصعب أن ينتخبوا اللوائح المعدة سلفاً"، متطرقاً إلى ظاهرة الإعاشات والمساعدات المنتشرة في المناطق الشعبية، والتي يوقع على بياناتها الخاطئة العديد من المواطنين الأميين الذين يقعون ضحية الاستغلال.

ويقول الناشط سامر حجار، أستاذ الاقتصاد وإدارة الاعمال في جامعة البلمند بأنّ منهجًا خاصًا كيّفته متطوعة تعمل كمنسقة لغة عربية ليكتسب المتعلمون 26 حرفًا "بأقصر مدة وبأسهل طريقة"، مضيفًا "طرابلس تحتضن نسب تسرب مدرسي تمثل أزمة جادة، لا خيار لنا سوى بالتمرد عليها". ويورد كمثال بأن "التسرب المدرسي يلامس نسبة 60% في منطقة المنكوبين".

زميله جيمي كرم يقيّم أبعاد التجربة "تأتي هذه الصفوف كإثبات بأننا إن أوجدنا الإطار لهؤلاء المتسربين، نستطيع القضاء تدريجيًا على هذه الآفة مهما تعاظم حجمها. بالمقابل، ماذا بذلت كل الحكومات لايقاف ناقوس الخطر الذي يدق منذ التسعينيات؟ لا خطوة بتاتًا".

وباستمرار التجاهل الحكومي والرسمي الموصوف لأزمة التسرب المدرسي وعواقبه الوخيمة على طرابلس، تستمر الجهود الصادقة لـ"ألف وأخواتها"، بالتزام وبموارد متواضعة مكّنت المتعلمين من اكتساب الأبجدية، معها بدؤوا يكتسبون سلاحًا ضد الجهل الذي به يُحارب فقراء طرابلس.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم