الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

حرّية حرّية حرّية

فوزي يمّين
A+ A-

يعود ولعي بكتابات أنسي الحاج إلى أيّام المراهقة. الافتتان الذي من الممكن أن تمارسه مثل هذه الكتابات، هو افتتان شديد الوقع على فكر أو وعي شابّ مراهق، لما في ذلك من تطابق بينها وبين تلك المرحلة من عمره. لأنّ ما يقرأه حينها من تجارب مغامرة إلى هذا الحدّ، يحسّ بها ويختبرها في شهوته أكثر ممّا يستوعبه في فكره.


حين قرأتُ "لن" للمرّة الأولى صُدمت. انفتح فمي وحده كمسطول. شعرتُ أنّ أحداً يقذفني ببركان، يضربني بساطور. دفنتُ وجهي خوفاً بين دفّتي الكتاب، وتمتمتُ بشفتين متلعثمتين: نجّني يا ربّ من هذا الدفق الشعوريّ. الشحن اللغويّ. التلاعب الحرّ بالكلمات والصور. مشاهد الدم والنار. العنف والحديد. الغربة والغرابة. الصرخة الحادّة كسكّين في الحلق. النبرات المقطوعة التي بالكاد واصلة. دكّ المسلّمات. التطرّق إلى الممنوعات. انتهاك المحرّمات. التجاوز. الخَرْق. المخالفة. الشكّ. السلبيّة. العدوانيّة. اللعنة. العنف. التجديف. البذاءة. الخنزرة. الفوضى. الرفض حتّى آخر خرطوشة. ردّ الفعل الأول الفجّ لشدّة صدقيّتها. الضربة الناشفة. الضحك. السحر. اللعب. الهزء. القَرْص اللذيذ. الوقاحة الأنيقة. التوحّش. الثأر. الانتقام. القتل. الضلال. التيه. الكتاب الواقع المحطَّم في الغرفة بعدما تمّ إفراغه من آخر كلمة، كالكأس من آخر نقطة. الجنس بأطول ألسنته. الجنس والحبّ ضربة واحدة. الغريزة لأنّها حمراء فيها نار وخرافات. الكبت. التوتّر. الهستيريا. الفانتاسم. الأبوكاليبس. الخوف. اليأس. الهجس بالموت منذ أوّل صفحة. الشوق إلى الحرّية حتّى آخر صفحة. الملائكة بأذناب وقرون. الشياطين الزرق. الكلمات الطالعة مباشرة من البطن. الدفقة الشعوريّة الخام، بعيداً من رقابة العقل وضغط الأحكام. الموجة المتماوجة، المتفجّرة، المتشظّية، التي لا تحسب حساباً لشيء. في اتجاه لا يتّجه. صوب حدود لا تحدّ. بعكس المجرى والسائد، وضدّ كلّ القوانين المرعيّة الإجراء. التعبير عن كلّ شيء دونما خوف أو حياء. تسمية الأشياء بأسمائها الأصليّة والمستعارة، وأسماء مغتصبيها وخانقيها، المانعين عنها الماء والهواء، الدافنين رفاتها تحت سابع أرض، ويبكونها كأنّهم أهلها. بطريقة لا طريقة لها. برفض لا بديل منه. بسؤال لا جواب عنه. بهدم لا بناء جاهزاً مكانه. بقطع الخيط نهائيّاً من دون أيّ تفكير مع كلّ شيء. من دون أدنى مساومة. فكلّ مساومة اعتراف، جبن.
لم يغيّر أنسي الحاج، وأنا أستكشفه يافعاً، وجه الشعر العربي فحسب، بل غيّر أيضاً حياتي، نظرتي إلى العالم والوجود. سرّب إليّ حرّية أقوى منّي. مدّني بشغف فتّاك. آنسني في وحشتي، كسراج على مفرق داكن. لذلك لم أستطع منع نفسي من ترداد قصائده بقوّة أينما حللت، أدسّها كسمّ لذيذ وأنفثها كبخار سحريّ، خصوصاً بين تلامذتي في المدارس، ثمّ لاحقاً تلميذاً، فدكتوراً في الجامعة اللبنانيّة التي أنجزتُ فيها رسالة الدبلوم وأطروحة الدكتوراه عن قصائده بالذات، على الرغم من أنّها شبه غائبة عن المنهاج المدرسيّ، وحاضرة بخجل في المنهاج الجامعيّ، وقد زاد عمرها على النصف قرن وأكثر.
كنتُ عندما أقرأ أشعاره لأصدقائي في الليالي المخمورة، يظنّون أنّي أقرأ لساحر ملعون يجاور الأفاعي والصقور، يمزج النبات بالغيوم، في يده خاتم يزوّغ، يدقّ على التنك، يستحضر الجنّ، يلعب على النار وظلالها في المرآة. كانوا يسمعون، وينتشون، متسائلين كيف يستطيع شاعر بهذه القسوة أن يكون رقيقاً، وبهذه القوّة أن يكون عطوباً؟
هذا التساؤل المشدود إلى وترين، جعلني أتنبّه، وأنا أقرأ دواوينه تباعاً، إلى مفارقاته وأضداده. فباكورته "لن" (1960) عنوان من حرفين يدلّ على نفي مستقبليّ، يحمل في طيّاته ما يحمل من رفض وعدوانيّة وغضب، بينما "الرسولة بشعرها الطويل حتّى الينابيع" (1975)، عنوان ديوانه الخامس، مؤلّف من خمس كلمات، وينزع إلى الإغراق في رسوليّة الحبّ الصوفيّة. من هنا، وببساطة، أخذت جملتين من الديوانين المذكورين، كتبتُهما جنباً إلى جنب على دفتر صغير: "عوض أن تُقبل من أمّكَ تزوّجْها" ("لن")، "أنا هو الشيطان أقدّم نفسي غلبَتْني الرقّة" ("الرسولة").
في الأولى نزعة شيطانيّة إلى تهديم أقدم فعل بشريّ- التناسل- من خلال خربطة تعاقبه الطبيعيّ وسياقه العضويّ (الإبن يأتي من الأمّ ولا يتزوّجها)، وتالياً خربطة سياق اللغة والمنطق والحياة، بحيث اعتبر البعض أنّ في هذه الجملة، وشبيهاتها، مسّاً بالمقدّسات واقترافاً للمحرّمات (زواج الابن من الأمّ)، بينما هي في الحقيقة دعوة إلى تحرير المشاعر والخيال. أمّا في الجملة الثانية، فالنزعة واضحة إلى التخلّي عن القسوة لصالح الرقّة، عن "الشيطنة" لصالح الحبّ.
من جهة، اكتشفتُ شاعراً شرّيراً، ملعوناً، مصاباً بلوثة، مولوداً ضدّ العافية. عباراته مروّسة، استفزازيّة. ألفاظه ساخنة، جامحة. فاجرة. جُمَلُه ملطومة، مدوّية، شبه جمل. نبراته انفعاليّة، تموّجية. نمطه فوضويّ في التوزيع والتنقيط. تلاعباته خطّية. يعتدي اعتداء سافراً على العناصر المؤسّسة للغة. يتعارض تعارضاً عنيفاً باتراً مع السائد الجماليّ. من جهة أخرى، اكتشفتُ شاعرَ الحبّ. جيلاً من العشّاق. رسولاً. صوفيّاً حتّى الينابيع. شفّافاً وضّاء. له وحدة بنيويّة. جُمل غنائيّة. نبرات إيقاعيّة. تكرارات. توازيات. متشابهات.
لكن في الجهتين، اكتشفتُ شاعراً حرّاً ومتمرّداً. هو هو. ترتبط تناقضات صفاته، في اختلاف مراحله الشعريّة، ارتباطاً وثيقاً ومباشراً بانحيازه التامّ والواضح إلى الحرّية الفرديّة. حيث تضخّم "الأنا" و"تظهير" صورها، في كلّ نزعاتها وميولها، "الأنا" المأزومة القلِقة الرافضة ليست إلاّ سبيلاً إلى الحرّية، وسيلة خلاص. فلا غضبه سوى غضب مقدّس، ولا تجديفه غير حنان خفيّ إلى الله. في حين ينظر أغلبيّة البشر إلى هذه الحرّية على أنّها مقامرة غير مضمونة أو معاهدة مع الشيطان. لذلك أحدثت بداياته بلبلة، جدلاً. أُخِذَ بالتباس. أُسيء فهمه. هُدِّد. سُجن. تعرّض لكثير من الاعتراضات. اتُّهم بالهرطقة. تمّ تصويره شيطاناً على غلاف إحدى المجلاّت الدينيّة المسيحيّة. إذ لم يُفهَم "شرُّه" على أنّه نموذج للتمرّد والحرّية، مثل كبار المتمرّدين في شتّى المجالات، الذين لا يُعتبَر رفضهم رفضاً آنيّاً لمسألة حياتيّة ظرفيّة، إنّما رفضٌ كيانيّ يدافع عن الحرّية أينما كان، وتمرّدٌ على الوضعيّة الانسانيّة بشكل عام. وما ذاك التمرّد، وما تلك الحرّية، إلاّ من باب اعتبارهما حقل استهداف للسلطة، أيّاً كانت، دينية أم أخلاقيّة أم اجتماعيّة أم قِيميّة أم لغويّة. فلعلّه كان أوّل من انحرف باللغة.
غير أنّ مسيرته تحوّلت بفعل تجاربها: من الرفض إلى المصالحة، من العدوانيّة إلى الحبّ، من التدمير إلى البناء، ومن اللغة المتوتّرة الصادمة إلى اللغة الغنائيّة الشفّافة. تحوّلت ولم تتغيّر. كأنّما الركام يطلع من تحت الركام. وكأنّما الرماد يعود ليصبح ناراً. أو هي النار تأكل نفسها بنفسها، ولشدّة ما تحمرّ تصبح بيضاء. هذا التحوّل الذي شهده شعره هو تحوّل طبيعيّ، لأنّه تمّ في سياق تصاعديّ، متحرّك وواعٍ، مع المحافظة على التغيير في كلّ مرحلة. حيث اختلفت التجربة من كتاب إلى آخر، من دون أن تتناقض، والتوت من دون أن تنحرف، وهدأت من دون أن تفقد عواصفها. فغدت تجربة متكاملة، من أقصى إلى أقصى، ومن ضفّة إلى ضفّة. هكذا ظلّ الشاعر رافضاً حتّى في مصالحته، متمرّداً حتّى في شفافيّته، ساخطاً حتّى في حكمته، وثائراً حتّى في حبّه.
مسيرة أنسي الحاج استثنائيّة، دنيويّة إن جاز القول. أي تنطلق من "زفرتها" الخاصّة، مرتكزة على تدنيس المسلّمات، كي تصل بنفسها إلى مقدّساتها. تشدّ الأقصويّات لا لتقيم التوازن، بل لتُعيده بعدما انقسمت وحدتُه بفعل الشرط البشريّ. الشاعر هنا يُعيد اللحمة. يصالح الداخل والخارج. يصالح الذات مع جوهرها.
مسيرة أنسي الحاج هي مسيرة الحرّية. تلك التي انطلقت من المخاوف الشخصيّة إلى الأسئلة الكبرى. بذلك انتصر الشعر بشعره، وعاد الشاعر معه إلى دوره الأصليّ الفعّال في استخدام اللغة وسيلة لتحرير الانسان وتغيير العالم.
سمعتُ من بعض اللاهوتيّين المسيحيّين أنّهم يسمّونه سرّاً في ما بينهم أوغسطينوس الشعر، عندما تحتشد في تجربة الاثنين، القدّيس والشاعر، جدليّات متشابهة إلى حدّ ما: الشكّ والايمان، الضلال والخلاص، الخير والشرّ، التواصل والانقطاع، العدوانيّة والحبّ.
قرأتُ أيضاً آراء لبعض النقّاد يعتبرون فيه أنّ كتاب "لن" يشكّل ثورة أنسي الحاج الحقيقيّة، وما تلاه هو خيانة له. لا أعرف إن كان القصد هنا سلبيّاً، غير أنّي أجده إطراء لمسيرة الشاعر الذي أوضح هو بنفسه، في مقدّمة "لن" بالذات، أنّ على قصيدة النثر أن تلغي دوماً ما قبلها، بل أكثر من ذلك، أن تلغي نفسها وتخون أشكالها السابقة باستمرار، كي تنتصر على الموت وتبقى متجدّدة وحيّة.
البارحة انتصر عليه الموت، وبقيت قصيدته متجدّدة وحيّة، تماماً كما تنبّأ لها أن تكون.
كلّما قرأتُ جملة له، في جريدة أو كتاب أو على الـ"فايسبوك"، سقط كلّ الكلام الذي قيل عنه، والذي يُقال. حتى كلامي هذا الذي أكتبه الآن.
فالشعر هو الأقوى، والأنبل، والأنقى.
أيّها الشاعر الشرس، كيف لم تعرف أن تهدأ؟
أهذا هو الشعر "ولا لحظة هدوء"؟
كيف لم تعرف أن تستسلم؟
كنتَ جيشاً من الكلمات، هديراً من المواقف.
لم تسكتْ على ظلم، على بشاعة، على قمع.
لم تفُتْكَ شاردة ولا واردة. لم تنمْ على صغيرة ولا كبيرة.
لم تتراجع. لم تساوم. لم تهادن.
حتّى آخر رمق، بقيتَ تقرع الجرس وتدعو الناس إلى الوليمة.
حتّى آخر رمق، تقارع كغيمة سوداء لا ترتدّ.
حتّى آخر رمق، تناطح.
حتّى آخر رمق، تسأل.
أيّها الصامت الصاخب.
أيّها الصارخ في برّية الرأس والجسد والروح.
كيف استطعت أن تصون عزلتك وأنت في قلب الحدث؟
أن تحافظ على رزانتك وأنت في عين العاصفة؟
أن تنسحب خالي اليدين من كلّ شيء وهما مملتئتان بكلّ شيء؟
إلى درجة أنّك عندما رحلت، تساءلنا: هل كنتَ حقّاً بيننا؟
كيف استطعت أن لا تتعب؟ حرّية حرّية حرّية، طوال الوقت.
ومن أين لك هذه الشجاعة الفائقة في مواجهة الحياة؟ كالأبطال، والقدّيسين، والشهداء.
ربّما تكون الآن ارتحت.
همدت معاركك مع الكلمات.
ربّما يكون الموت هو المصالحة الشافية مع الحياة. الجواب عن كلّ الأسئلة.
ربّما لا.
ربّما أنت الآن تغمس قلمَك في حبر آخر، وتنفضه على أرض أخرى.
ربّما لا.
لكن، لمزيد من الاطمئنان، أو عدمه، أقول لك إنه لم يتغيّر شيء عندنا.
اللعبة هي نفسها. الحرائق أكثر اشتعالاً. المحاور أشدّ سخونة. الموت أكثر مجّانية.
لا أعرف أين أنت الآن. لا أعرف أين يذهب الواحد منّا بعد أن يموت.
لكن أعتقد أنّك ترفرف في مكان ما. أتخيّلك في فسحة رجراجة بين العتمة والضوء. وجهُك يلمع كصرخة، وصوتك يندلق كشلاّل.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم