الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

فيديو- حين تصبح الجحيم جنة

سحر بحراوي المملكة العربية السعودية
فيديو- حين تصبح الجحيم جنة
فيديو- حين تصبح الجحيم جنة
A+ A-

إنه عيد ميلادي الأربعون. دخلت الكافيه حيث احتفلت الصديقات بوصولي للعقد الرابع، بكامل صحتي وأناقتي. استوقفتني البالونات التي جسّدت عمري: 40! لوهلة، شعرت أن وقع عمري على الآذان أرق كثيراً من رؤيته مجسّماً أمامي! جلست تحت البالون المخيف الذي يحمل سنّي الجديدة، وغصبت ابتسامة على شفتي لاستقبال شلاّل الصور!

دائماً ما كنت أشعر أن تلك المحطة ستضمن تغيراً محورياً في حياتي؛ انتقالاً إلى مرحلة أخرى؛ مرحلة تخيلتها في إطار الإنجاز والنجاح المهني.

في اليوم التالي لعيد ميلادي، زارني والدي، طبيب جراح، ليحتفل معي مرة أخرى. بعد العشاء، رمى عليّ القنبلة:

"هذا العمر اللّي يبدأوا فيه فحص الثدي من الأورام. خذي موعد".

شعرت بغصة في حلقي سلبت مباهج الاحتفال. لسبب ما، لدينا قناعة غريبة أننا إذا تجنبنا الخوض في ما هو مخيف ومؤلم، فنحن بمأمن منه. قناعة هدّامة تسيطر على الملايين وتقتل الآلاف. عبّرت لوالدي عن خوفي من التنقيب عن ورم، لأني إن وجدته بالفعل، لا قدّر الله، فلن أتعالج. فلا أسوأ من السرطان سوى علاجه. تغيّرت ملامح والدي، واستنكر عليّ فكراً وجدَ أنه لا يليق بمثقفة.

"سرطان الثدي ليس مرضاً خطيراً إن اكتُشف في أوله. كل ما تسمعينه عما هو مؤلم ومرعب سببه اكتشاف الورم في مراحله الأخيرة. عليك أن تبحثي عن الأورام كي تلحقيها في أولها إن كانت موجودة".

ودّعت والدي، ثم نظرت إلى وجهي في مرآة المدخل. لم أجد تغيّراً. أنا مثلما أنا، لم يغير العمر مني الكثير. ثم وضعت أناملي على ثدييَّ، لفحص ذاتي، كما أوصاني أبي، فوجدت أنّ ثمة نتوءاً بسيطة في أعلى الثدي الأيمن!

أعدت استشعار الفرق مراراً وتكراراً إلى أن انتهى بي الشك في مركز الأشعة بمستشفى خاص. في البداية، استبشرت خيراً حينما علمت من الممرضة أن نتيجة الماموغرام لم تُظهر وجود أي أورام. إلا أن سعادتي لم تكتمل، فقد ظهر الورم على شاشة أشعة الألتراساوند (الموجات الصوتية) في الثواني الأولى للكشف.

"أنا شايفة ورم"

تجمدت الدماء في عروقي إثر تعليق الطبيبة. تخللني الخوف حتى غزا نخاعي الشوكي، فتنمّلت أطرافي. وقبل أن تخور قواي، أنقذتني خاطرة:

لمَ كل هذا الرعب لخبر وجود الورم وقد أتى بي إلى هنا؟

"حميد، صح؟".

امتلأت نبرة سؤالي بتوسلٍ باكٍ، إلا أنه لم يحل دون الطبيبة والإجابة الدامية:

"الورم متعرج وليس مستديراً، وبه شريان يغذيه، مع الأسف قد يكون خبيثاً. أنصح بأخذ عيّنة فوراً"

مرعبة هي الثواني؛ تطير من بين أيدنا كالرياح، فنأمن لها، إلى أن تحمل لنا إحداها أمراً يقلب حياتنا رأساً على عقب. لم أقل الكثير. فانهمرت الدموع من عينيَّ في صمت. لم تكن مصيبتي أني قد أكون مصابة بالسرطان، بل كيف سأخبر أمي؟

انتحيت جانباً، فامتنعت عن زيارة أمي أو محادثتها حتى على الهاتف؛ علها تفضحني. وفي اليوم الثالث، اتصلت بي معاتبة، فكانت قد خرجت لتوّها من فحص الثدي السنوي، فاكتشفت ورماً مشتبَهاً فيه بثديها الأيمن، وطُلب منها عيّنة!

على غرابة المفاجأة وسوئها، إلا أني رأيت فيها مخرجاً لمأزقي. فأفصحت لأمي عما كان بي، ودخلنا معاً لعملية الخزعة؛ وكانت النتيجة متطابقة: ورمٌ خبيثٌ لكلينا بنفس الحجم في نفس الثدي! وعلى قدر الصدمة، كان الصبر والأزر، وعلى قدر الابتلاء، فُتحت لنا أبواب ما كنا لنراها في الرخاء.

على عكس المتبع بمجتمعنا من كتمان لخبر المرض، أعلنّا أنا وأمي عن إصابتنا، فحالتنا كانت اكتشافاً مبكراً، علاجها مضمون من بعد مشيئة الله. لذلك، رأيت في مشاركة تجربتنا دافعاً كي لا تهمل النساء فحص الثدي. ثم سافرنا إلى باريس، حيث العلاج الأمثل، وحيث الجمال والرقي ومرحلة من عمري ما رأيتها قادمة قط.

منذ أن تخرجت من الجامعة، وطموحي جامح ويعلو يوماً تلو الآخر. كان متوسط ساعات عملي اليومية يتعدى العشر ساعات، أحلام في بلوغ المعالي تتكاثر وتزداد ارتفاعاً كل عام. أحلام حرمتني الاحتفال بفرحة النجاح، فكانت تدفعني لتخطي تلك الوقفات من أجل العمل لما هو قادم. عشت من أجل مستقبل انتظرت أن يأتي، فصرت أسيرته، وأهملت حاضري ولحظتي ويومي، فبتّ تعيسة، بلا وعي مني.

ولما شُخصت بالخبيث، وجدتني أشيخ بوجهي عما هو قادم، لأنه مؤلم، موجع، وقاتم. أُجبرت أن أعيش الحاضر خوفاً مما هو آت، فإذا بي أصبح امرأة سعيدة وأنا مريضة سرطان بعد أن كنتُ تعيسة وأنا سليمة!

في باريس، صنعت قائمة بكل ما كنت أحلم به، وكل ما كنت أؤجله بسبب طموحي القاسي، وقررت أن تصبح فترة علاجي هي فترة تحقيق الأحلام. كان أول حلم هو أن أعيش في باريس، ومن بعدها أن أتقن الفرنسية، وأتعلم الرقص باحتراف، وأمضي أيامي بين المتاحف ومعارض الفن. وخلال تسعة أشهر، لم أقتل السرطان فحسب، بل قتلت القسوة التي كنت أعامل فيها نفسي، فولدت من جديد، امرأة أبسط وأسعد وأكثر حباً للحياة. لا أشك في أن مرضي هذا كان رسالة من الله، وهدية ميلادي الأربعين.

فما عانيناه أنا وأمي لم يكن وراثياً، كان مصادفة! أصبنا سوياً مصادفة! لنحيا من جديد. فلولا تجربة القرب من الموت لما قدّرت الحياة، ولولا افتضاح المستقبل الذي قد يحمل في طياته واقعاً بغيضاً لما أجبرت على احتضان الحاضر ومعه سعادة لا تنتهي. 




حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم