الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"١٩١٧" لسام مندس: شجرة الحرب

المصدر: "النهار"
هوفيك حبشيان
"١٩١٧" لسام مندس: شجرة الحرب
"١٩١٧" لسام مندس: شجرة الحرب
A+ A-

في البداية، نعتقد أننا أُقحِمنا في لعبة فيديو. الدقائق الأولى توحي بذلك. جنديان بريطانيان (دين تشارلز تشابمان - جورج ماكّاي)، مطلوب منهما قطع مسافة معينة -لنقلْ من نقطة أ إلى نقطة ب -ليحطا سالمين خلف خطوط العدو مروراً بأرض محايدة، بهدف إيصال رسالة إلى ضابط، تأمره فيها السلطات العسكرية العليا بوقف الهجوم على الألمان الذي يتم الاستعداد له، والانسحاب الفوري تفادياً للوقوع في فخّ منصوب لهم.

لا يوجد شيء أبسط من هذا. لم أشاهد فيلماً حربياً حبكته بهذه الخطيّة المباشرة. كلّ ما على الجنديين فعله هو تنفيذ هذه المهمّة السهلة، في تاريخها المحدد (٦ نيسان ١٩١٧)، وبأسرع وقت. الا أننا على الجبهة (الغربية)، في جحيم الحرب العالمية الأولى، وما أدراك ما الحرب العالمية الأولى عندما تكون جندياً. لا شيء سوى موت، وتعقب الموت لك، ومحاولات متعددة للتغلّب على الموت. سام مندس يصرّ على أفلمة تلك التفاصيل التي تجعل من الجندي جندياً متروكاً لمصيره وسرعة تكيفه مع الخطر والخوف واليأس، خلال الحرب، لا بل كلّ الحروب التي يحاول الفيلم اختزال شرورها وقسوتها ووحشيتها عبر خطاب بدائي ومعقّد في آنٍ واحد. لا يرينا الـ"ماذا" المتعلّقة بالحروب فحسب، بل أيضاً الـ"كيف" والـ"متى".

الـ"متى"، أي هذا العنصر الزمني الذي يطلق سباقاً محموماً مع الوقت، هي ما ترتّب لـ "١٩١٧"، مكاناً خاصاً في موسوعة سينما الحرب. للمرة الأولى، يأتينا فيلمحربي بالزمن الفعلي للحوادث. أي انه يصوّر حدثاً استغرق في الحقيقة نحواً من ١١٥ دقيقة، منذ بدايته حتى النهاية، باستثناء قطع ينقل الفيلم من النهار إلى الليل. ما نراه هو ما حدث، ثانية بعد ثانية. مندس يختار تصويره لقطة واحدة (تقنياً ليس كذلك، ولكن يعكس هذا الانطباع). هذه الوحدة وهذا المسار هما العمود الفقري للفيلم، كلّ شيء يتحلّق حوله. لطالما كان تصوير فيلم باللقطة الواحدة أمراً مغوياً عند السينمائيين، لأنه، عدا التحدّي، يوفّر استمرارية أحاسيس تكبحها الوصلات المونتاجية واستبدال الزوايا بالطريقة التقليدية. أضف اليه، في حال هذا الفيلم، انه يمدّ الجسد، جسد الجنديين، بكلّ أشكال التفاعل مع اللحظة المترابطة.

ولكن، دعونا لا نمنح الانطباع بأن "١٩١٧" عبارة عن رقصة تقنية تدور في فراغ. العكس هو الصحيح. هذه من المرات التي نجد فيها التقنية الحديثة وقد انصهرت بالكامل مع النصّ. ولعل جزءا كبيرامن الانبهار الذي يحدث، سببه حداثة تقنية الفيلم. كان مستحيلاً الحصول على هذه النتيجة قبل عقدين أو ثلاثة. لقطة بعد لقطة، تتخلص التقنية من "تفوقها" وبراعتها، لتغدو انفعالاً، شفافية، علاقة بالزمان والمكان، إلى درجة ننساها كلياً ولا يعود هناك غير الشخصيتين ومهمّتهما. مندس يلغي كلّ شيء تقريباً، ليبقيالعلاقة المرهقة التي يحاول بناءها بين المُشاهد والجنديين اللذين سنراهما في أشكال مختلفة من الصراع، للبقاء على قيد الحياة. فيكتفي، في النتيجة، بالمشهدية الانغماسية التي تجعلنا نتعقّب مسار الجنديين ونعيش تجربتهما مع كلّ ما يترتب عليها من خوف وتحدٍّ وخلاص.

حتى وإن تضمّن الكلام الآتي شيئاً من المبالغة والادعاء، أجدني مجبراً على قوله، كي لا أخون أحاسيس تراكمت لديّ خلال المشاهدة، لم أتخلص منها عند الكتابة. في تقديري ان "١٩١٧"هو لقاء لم يتحقق بين جيمس بوند وشكسبير، عبر الزمان والمكان. انه لقاء، نعم، بين إيقاع الأول وتراجيديا الثاني. فمندس ابن الإثنين، خريج مسرح شكسبير قبل ان يرمي نفسه في حضن بريطاني آخر، هو العميل السري الشهير.

يقدّم مندس بالتعاون مع مدير التصوير الكبير روجر ديكنز، فيلماً حسّياً خالياً من معظم ما صنع مجد الأفلام الحربية: ثنائية الخير والشر. العدو والحليف. لحظات حرب ولحظات استراحة. حميمية ومشهدية عريضة. المخرج الذي سبق ان صوّر فيلماً حربياً وقع في النسيان ("جارهيد" - ٢٠٠٥ - عن حرب الخليج)، يبتعد عن كليشيه أفلام الحروب. بمساندة كلّ ما سبق وذُكر، يستمد من الأرض والعناصر الطبيعية، خصائصه السينمائية. تراب، خضرة، مياه، نار، عتمة، غبار. يعيد الجندي إلى ظرفه الأول، الذي لم تعره الكثير من الأفلام الحربية أي اهتمام، أي احتكاكه بهذا كله، أكثر من مواجهته أي عدو. أياً يكن، فإن علاقة الطبيعة بالحرب ليست جديدة، وقد أوصلها "الخط الأحمر الرفيع" لترنس ماليك إلى مستوى آخر من الوعي. في هذا الصدد، جنرال فرنسي كان يقول وهو ينظر إلى المشاهدالطبيعية التي دمّرتها الحرب: "الطبيعة تسخر من قصصنا. الطبيعة ستبقى كما هي”.

يسعى "١٩١٧” إلى كبت الأحاسيس أطول فترة ممكنة، فقط لسبب واحد: كي تتجمّع وتتفجّر عظمةً بصريةً ودوياً أبوكاليبتياً وتصعيداً مسرحياً في لحظتين باهرتين لا مبالغة في القول انهما ذروتان تعبّران عن اللقاء بين الضوء والظلمة، بين جمالية الخراب وبشاعة الطبيعة البشرية: الأولى هي مشهد الوصول إلى المدينة المدمّرة، المشتعلة بنيران الجحيم، والثانية هي مشهد الهجوم. مرة أخرى، يستمد مندس من مدرستين يعرفهما جيداً: شكسبير وبوند.

عندما تذوب الشاشة إلى السواد ويصعد الجنريك، يكون الهدوء قد عاد إلى الجبهة، والعابر قد عبر أرض المعركة من طرف إلى طرف. حينها، وحينها فقط، نعي ان ما شاهدناه ليس سوى ساعتين في حياة عسكري، وانه، بعد عودته للجلوس حيث انتشلته الكاميرا منه في بداية الفيلم، لن يبقى سوى شيء واحد يتظلل به ويحمي رأسه به: الشجرة. الشجرة التي تشهد على لحظة تحوّله من جندي إلى إنسان.



حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم