الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

هذا جزاؤكَ يا أبو الياس، النّاسُ تنتظر العيد بفارغ الصبر وأنت تريد إبعاده

باسم عون
هذا جزاؤكَ يا أبو الياس، النّاسُ تنتظر العيد بفارغ الصبر وأنت تريد إبعاده
هذا جزاؤكَ يا أبو الياس، النّاسُ تنتظر العيد بفارغ الصبر وأنت تريد إبعاده
A+ A-

...وَدارِت الأرض دورَتَها حَوْلَ الشمس. وإِذا بالعيد قد أقبلَ من جديد. إنّه عيد ميلاد الفادي، ذاك الفقير الّذي لم يكُن له حجرٌ يُسندُ اليه رأسه، على ما جاءَ في الكُتب...

فَلَكَم تَضرّع أبو الياس إلى الطِّفْل الإِلٰهيّ كَي يُرجِئَ موعدَ ميلاده لهذهِ السّنة، لهذه السّنة فقط. يُرجِئه بضعَةَ أسابيعَ رَيْثما تَنجلي غيوم الثّورة عن صُبحٍ جميل. فالجوع قد بات يحوم حولَ المعاجِن الفارغة، وراحت الرّيح تصفُر في المواقِدِ الباردة، لِنفاذ الوقودِ مِن الأسواق، والجيوب تشكو العَوَز بعدما استفحلت البطالةُ في كافةِ أَرْجاء الوطن .

"يا ربَّ الفقراء والمساكين، تمهّل قليلًا. فما ضَيْرَ لو تأخّر مجيئُك بعضَ الوقت؟ فنحنُ يا ربّ، كما ترى، لا طاقة لنا على استقبالك هذا العام، إذ ليس لنا ما نقدِّمه اليك في هذا العيد سوى الدُّموع...

لو كنتَ تعلمُ يا ربّ ما أمَرّ هذا العيد على الفقراء والمساكين! فحتّى الشَّجرة الّتي كنّا نُقيمها في الرُّكنِ قد انكَسَرت السّنة الماضية بعد طول خدمة، ولا قدرة لنا على شراءِ غيرِها لميلادِك الحاليّ. أمّا عشاء العيد لهذه السّنة فقد بات بـِحُكْم ِالمُلغى _ كما تَعرف_ بعدما أصبحت التكلفة خارج المستطاع... وها هي أمّ الياس قد ارتَأتْ وَحفاظًا على ماءِ الوجْه ورأفة بالصغيرَين ريتا والياس أن تمضي بِهِما في ليلةِ العيد عند أختها التي ما زال زوجها على قَيْدِ العمل ولو بِنصف راتِب...".

... ولكنَّ العيدَ قد أتى غيرَ آبهٍ بصلواتٍ وأمنياتٍ وهواجِس.

لم يكن أبو الياس، ذلك الكهْل الّذي مارسَ شتّى أنواعِ المِهَن، ليقوم بأَوْد عائلته الصغيرة، لم يكن ليتصوّرَ يومًا بأنَّهُ سيصبحَ عاطلًا عن العمل وَلأشهرٍ خَلَت. غَيْر أنَّ صَلواتَهُ وإِن لم تُسْفِر عن إبطاء مجيء يسوع، فإنّها لم تذهب كليًّا أدراج الرّياح إذ يبدو أنَّ ثمة من يُصْغي هناكَ في الفَوْق، في مكانٍ ما، خارجَ وادي الدموعِ هذا.

لأبي الياس بَطل قِصّتنا لحيةٌ بيضاءَ جميلة طالما أَغوَت نساء الحيّ فنغَّصت هناءَة عيشِ بعض الرّجال بقدر ما أجَّـجت نارَ الغَيرَْة في صدر أم الياس، فتمنَّت لها ما أصاب صادوم وعمورة من نارٍ وكبريت، ولكنَّ أُمنياتها لم تتحقق. وكم حاولت إقناع زوجها بحلاقَتِها بداعي النّظافة ولَكِن دونَ جَدْوى... لكِنَّ "أبو الياس" صمدَ صمود القرش في جيب البخيل، ولم يتزحزح. هذا وإلى جانب لحيته البيضاء الجميلة كان اعتزاز الرجل ايضًا بـ"كِرشٍ" عظيمة هي ما تبقّى لديه من سمات الوجاهة الغابرة في هذا الزمن الرديء، مما يُضفي على بطلِنا صورة عملاقٍ جميلٍ من مثل ما نشاهده في القصص المصوَّرة للأطفال. ويبدو بأن هذه الهيئة الجليلة قد لفتت نظر أحدهم خلال النهار وعشيَّة العيد بينما كان عملاقنا المحبوب يقوم بتقطيع الحطبَ خارجَ المنزل.

وكعادة مُقْتنِصِي الفُرَص، طُرق الباب بعد الظهر. ففتح أبو الياس. وكان لقاءٌ، فصفقةٌ، فاتفاق. ولِسُخريةِ القدر وُجِبَ عليه الآن أن يعلن بواسطة "جَرَسٍ" قدوم العيد، هذا العيدِ الذي طالما صلّى كي يتأخر قدومه. وهذه "عُدّة" العمل جاهزةٌ: بِذَّةٌ حمراءَ مزدانةٌ بالفَرْو الأبيض، زنّارٌ أسودَ عريض، قبعةٌ كبيرةٌ مدبَّبة تحاكي البذّة ألوانًا، وكيسٍ كبير، كبير جدًا، يتَّسِع لِهموم أبو الياس وأحزانه كلِّها ناهيكَ عن جَرَسٍ ذَهبيٍّ كبيرٍ ذو رَنينٍ قويّ ممّا يفقد أطْفالَ العالمِ صوابَهم.... وصارَ للعيد بابا نَويلُهُ.

ارتدى بابا نويل حُلّتَهُ الجديدة وراح بِصوته يَصْطنعُ قهقهةَ زملائِهِ المخَضرمين: "هو هو هو هو هو Merry Christmas ...".

عند السّاعة السّادِسَة مساءً توقفت سيّارةٌ كبيرةٌ متخمةٌ بالهدايا أمام الباب. صعِد َالبابا نويل العتيد على متنها وفي يده الجرس المذكور يلعلعُ وسْط هَرْجِ أطفال الحيّ الذين عقدت الدّهشةُ السنتهم بعدما شاهدوا عملاقَ الفرح هذا وقد أَعْرضَ عنهم. فما لبثوا ان قفلوا راجعينَ خائبين، لا هدايا ولا من يحزنون...

قاد السّائـق من قرية غزير نزولًا نحو السّاحل... وضجّت الأفكار في رأس أبو الياس: لا شك بأن الوُجْهةَ ستكون طرابلس، حيث اجتمع فقراءُ لبنان وأطفالُه في ساحة الثّورة، وشَكَرَ في قلبِه فاعِلَ الخَيرِ، المحسنِ الكبير الذي استخدمه لإداءِ هذه المهمَّة النّبيلة. فمَن غَيرَ الفقراء يستحقُّ هذه الهدايا غير المنتظرة وفي مثل هذا الظّرف بالذّات؟... غَيرَ أنَّ السيّارةَ ما إِن وصلت الى الخطّ السّاحليّ حتى انحرفتْ يَسارًا باتجاهِ بيروت... غصَّ أبو الياس قليلًا ثم أردفَ يحدِّث نفسه في سرِّهِ: رُويدَك قليلًا، فربما الأقربونَ أَوْلى بالمعروف، فهناك على رَميةِ حجرٍ، يتجمَّعُ المئات من الثوّار في الزّوق... فلعلَّ... ولكِن... ها هي السَّيارة تتجاوز تجمُّع الزّوق وتمُعِنُ في السَّيرِ جنوبًا. ومرَّةً جديدة لامَ البابا نويل "الطازَجُ" نفسَهُ على التَّسَرُّعِ بالأَحكام وعلى تفكيرهِ المناطِقيّ الضّيِّق والكسروانيّ بالتّحديد ولا سِيمّا في زمنِ الثّورةِ المُبارك.

واستمرّ السّائقُ في القيادة فاجتازت السّيارةُ جلَّ الدّيب أيْضًا، فلم يَسَع أبو الياس، إلّا الثّناءَ في قلبِه على فاعلِ الخير نَفسَه الّذي تَجاوَزَ في تفكيره الشُّعورَ الطائفيَّ البغيض كما يبدو...

...وأخيرًا اتَّضَحَت الصّورةُ الأكَيدة في رأسِ بابا نويل: إنّنا ذاهبون الى العاصِمة. فهناك في ساحةِ الشّهداء قد اندَمَجت طوائفُ لبنانَ الثّائر في لوحةٍ وطنيةٍ ساحرَة... نَعم، نَعم، إلى ساحةِ الشّهداء، ونِعْمَ الخَيار...

ولا تَسَلْ عن دهشة بَطلِنا عندما اجتازت السيارة مُجدَّدًا وسَط العاصمة على مقربةٍ من الحشود حيث تعالت الهتافات والصَّيحات والأناشيد، لِتُيَمِّمَ شَطْر بيروت "الغربية" سابقًا. وهنا أُسقِطَ في يدِ أبو الياس، فَراح يتحسَّسُ رقبتَهُ ويمسحُ العرَقَ المتَصبِّبَ من جبينهِ فيما الهواجسُ تعصِفُ بهِ من كلِّ حَدْبٍ وصَوب.

صحيحٌ هو مع الثّورة... ولكِنَّهُ لم يَرتكِب مُنكرًا. فلا شَتمَ وزيرًا ولا تدافعَ مع شُرطيّ ولا مزّق صورةً لزعيم، كما وأنَّه لم يسبق له أن اعتدى على أحدٍ خِلال السِّتّين يومًا المنصَرمَة من عُمْرِ الثّورة، فما شأنهم بهِ؟ وإلى أينَ يختطفونَهُ؟ تماسكَ أيو الياس قليلًا. وإن كانت يُمناه قد اعتراها الخدَرُ فأُفلِتَ الجرسُ من يده ووقع على أرض السّيارة مُصْدِرًا زعيقًا مُزعجًا ما جعلَ السّائقَ يلتفتُ إلى الوراء بحدَّة. فتأكَّدتْ هواجِسُ أبو الياس وأيقنَ أنَّ ساعته قد دَنَت...

وتداخلت الأفكار السود في رأس المسكين: "هذا جَزاؤكَ يا أبو الياس. ألنّاسُ تنتظرُ العيدَ بفارغ ِالصّبْر وأنتَ تريدُ إبعادَه، ولماذا؟ وما دَخلُ العيد في فَقْركَ أيُّها الأنانيّ البائِس... وهذه اللحيَةُ التي كانت مدْعاة اعتزازٍ لكَ رغُمَ لعَنَات إم الياس، ها هي اليوم قد أوْرَدَتكَ موارِد َالهلاك... أتراها النهاية؟ رُحْماك يا رَبّ..."

وانْهار أبو الياس في مقعدِه وتسارعَت انفاسُه بينما غزا الشحوبُ ذَلك الوجْهِ الأحمرِ الّذي كان قبل لحظاتٍ ينضَحُ صحةً وعافية...

لحظاتٌ قاتلةٌ مرَّت... وبينما كان البابا نويل يتلو صلواتَه الأخيرة بانتظار قدره المحتوم، إستفاق من ذهوله على وقع صوت السّائق: "وصَلنا". وتوقفت السّيارة أمام بناية فارهةٍ في منطقة الجناح...

قال السائق بلهجةِ رجُلِ أعمال: "ستَصعَد إلى الطابق الخامس. تُسَلِّم الهدايا، تـقهقِه، ولا تنسَ أن تقرعَ الجرسَ "جَرَسَك" ابتداءً من أسفلِ الدّرج. أنا بانتظارِك، هيّا"...

لم يعرف أبوالياس كيف استطاعَت قدَماهُ أنْ تحمِلاه بعد كلِّ تلك اللحظات المرعِبة التي عاشها ولكنَّهُ لَمْلَمَ بعضَهُ ومضى، يَحدوه أملٌ كبيرٌ بالنجاة و تُنَغِّصُّه وَساوِسُ فظيعةٌ من الشَّكِّ والرَّيْبة.

وفي مدخل البناية حاول البابا نويل استرداد رَوْعَهُ. وللمرَّةِ الأخيرة قبل الّلِقاء صَدَحَ بالقهقهةِ المَعْهودة: "ها..هو..ه..ه.." لا. لا، ليست مقبولة قهقهته تلك. إنها مخنوقةٌ بعضَ الشّيء. فاستلحقها بأخرى مُدويِّة، ارتجت لها أركان المبنى: "هو هو هو هو"... والتقطَ أنفاسه ومضى مُصَعِّداً على الدّرج باتجاهِ الطابقِ الخامِس... وهناك، وجد البابَ مفتوحاً على مِصْراعيه وفي صدْر المدخل انتصبَ طفلان مشدوهان مصعوقان لكأنّهما في حالةِ انخطافٍ روحيٍّ عظيم، يحيط بهما أفراد العائلة الكريمة من مختلف الأعمار والأحجام والأشكال. حتى الخادمات قد تدافَعْنَ في الممرّات تَحدوهُنَّ الحشريةُ لحضورِ الحادثِ الجَلَل.

"هو هو هو هو هو...Merry Christmas "... والجرسُ يقرعُ مُجَلجِلًا مُدَوِّيًا في مشهدٍ قد يذكِّرَكَ بيومِ الحشْرِ العظيم... وبجهدٍ كبيرٍ وضع البابا نَويل كيسَهُ على الأرضِ وراح يُخْرجُ من الهدايا أشكالاً وألواناً. ولكنَّ الغريب أنَّ ما يَقرأُهُ من الأسماء على الهدايا لم يَتعدَّ الإسمين فقط، فَهذه لفاتِن وهذه للوشي وهذه لفاتِن وتلك لِلوشي، وهذه أيضاً للوشي، وأخرى لفاتِن وأخرى لفاتِن" وغيرها للوشي...

"غريب "... قال البابا نويل في نفسهِ، "أَفيش غَيْر هالوَلَدَيْن؟ وَيْن بَقِيّةالولاد؟" وغاب في سراديب نفسه: "أَلا تكفي هديّةً واحدةً أو اثنتين لإسعاد طِفْل؟ ولَكِنَّ الخادِمَ أتَتْهُ بالضِّيافة فقطعت عَلَيهِ شريطَ تأمُّلاتِه، فتناول قطعة حلوى، وقبل أن ينصرف دخلت الحاجَّةُ من الممرّ المجاوِر فغَمَرَت "لوشي" قائلةً له: "عجبوك الهدايا تاعولَك يا عَلي؟ "يِنعاد عليك يا قبّاري، يا رُوحا للتاتا إنت... وهنا تأكَّد بابا نويل ممِّا سبق وَسمعَه في السّاحات من أن الطّائفيّة قد ولَّتْ إلى غيرِ رَجْعة، فأخذته الحماسَةُ وهتفَ بأَعلى صوتَه :"وُلِدَ المَسيح . فردّ الجميع بصوت واحدٍ: "عليه السّلام ".وساد الهرجُ...

وَتدحْرجَ البابا نويل على الدَّرَجِ مُرَدِّداً :"الله أكبـر... أَيْش هادا يا عَمّي ،الثّوار مْعَبيين الدِّني "...

وفي غُضون دقائقَ كان البابا نويل قد أنجزَ مهمتَهُ الميلاديِّة ودخلَ السّيارة من جديد فانطلقَ السائقُ راجعاً...

وقرب بيتهِ في غزير ، ناولَهُ السائقُ مئتيْ ألفَ ليرةٍ لبنانية وقد أهداه ثوبَ البابانَويل "بْضَهر البَيْعة"...

وانفرجت أساريرُ أبو الياس وعندما حملَ كيسَهُ ليدخُلَ دارَه تفاجأَ ببعضِ الثِّقل فيما يفترضُ بالكيسِ أن يكونَ فارغاً خاوِيًا . وَلَشَدَّ ما كانت دهشتُهُ كبيرة عندما وجد في الكيس هَديَّتان إثنتان كُتِبَ على إحداهما اسم فاتن وعلى الأخرى اسم لوشي يبدو أنَّهُ قد نَسِيَهُما في ذُرْوةِ انفعالاتِه خِلال التوزيع في "الجْناح"...

وكانت لحظاتُ تأمُّلٍ عميق ، شِكرَ فيها أبو الياس صاحِب العيد على تدبيره في ليلةِ ميلادِه ولَكِنَّهُ لَمْ يُضِع الوقت فانطلقَ إلى السّوبرماركِت المجاورِة فاشترى شجرةً ميلاديَّةً جميلة وقنينةً مُغرِيَةً من النّبيذِ الأحمرِ الفاخِر، ثمَّ التحَقَ بسهرةِ عشيَّة الميلاد حيثُ زوجته وطِفْلَيْه...

ولا تَسَلْ عن مفاجأَةِ طِفْلَيه عندما عادت العائلةُ إلى بيتها المتواضع، حيثُ وَجدا في الرُّكْنِ الّذي كانَ فارِغاً، شجرةً ميلاديَّةً جميلة وُضع تحتها هديّتانِ حَملَتا اسم الياس واسم ريتا. وهتفَ أبو الياس بصوتٍ جهوريّ: "وُلِدَ المسيح" فردّ الجميع بصوتٍ واحدٍ: "هلِّــلـــويــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم