السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

يسوع المسيح... وما صحّة الزعم أنّه "الفدائي الفلسطيني الأوّل"؟ FactCheck#

المصدر: "النهار"
هالة حمصي
هالة حمصي
يسوع المسيح... وما صحّة الزعم أنّه "الفدائي الفلسطيني الأوّل"؟ FactCheck#
يسوع المسيح... وما صحّة الزعم أنّه "الفدائي الفلسطيني الأوّل"؟ FactCheck#
A+ A-

الكلام يتعلق بيسوع المسيح. رسم له بالكوفية الفلسطينية. وفي الزعم المُعلن عليه، "الفدائي الفلسطيني الأول (هو) السيد المسيح". وقد أضيف تحت الرسم، قول "ومن لم يكن لديه سيف فليبع رداءه ويشتره"، بحيث أشير بخط صغير الى ان مصدره "إنجيل لوقا- العهد الجديد ص 255". FactCheck#

النتيجة: استخدام تعبير يسوع المسيح هو "الفدائي الفلسطيني الاول" غير جائز. ويوضح مدير دار المشرق الأب الدكتور صلاح أبو جوده اليسوعي لـ"النهار" أن "المسيح في التقليد المسيحيّ هو فادي البشريّة كلّها، وعمل فدائه على صلةٍ وطيدةٍ بتحرير الإنسان من الخطيئة. وليس للفظة فداء إذًا أيّ مضمون سياسيّ. وبالتالي لا يجوز أن نقول في المسيح إنّه "فدائيّ" كما تُفهم اللفظة في إطار الصراع بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين". 

أمّا "الاستشهاد بجزء من آية إنجيل القدّيس لوقا 22: 36"، فقد جاء "على نحوٍ خاطئ"، بتعبير الأب أبو جوده، "إذ تُقدَّم كأنَّها دعوة إلى حمل السلاح"، "دعوة تشوّه كلّ رسالة الانجيل، وهذا غير مقبول"، على قوله، "اذ ان الموضوعية تفترض فهم الآية في إطارها، ومن ثمّ، بشكل أوسع، في إطار رسالة الإنجيل كلّه، والتي ملؤها المغفرة والمحبة".  

"النّهار" دقّقت وسألت من أجلكم

الوقائع: منذ أيّام عدة، تكثف تناقل صورة السيد المسيح تلك على حسابات، خصوصا في تويتر (هنا، هنا، هنا، هنا، وهنا). وقد اكتفى بعضها بنشر عبارة: ميلاد او في ميلاد "الفدائي الفلسطيني الأول (هو) السيد المسيح"... بينما أضافت أخرى: "ومن لم يكن لديه سيف فليبع رداءه ويشتره". وقد تزامن هذا النشر مع احتفال المسيحيين بعيد ميلاد السيد المسيح، ابتداء من 24 كانون الاول 2019.  

التدقيق:

-الصورة المتناقلة تحمل توقيع "نبض فلسطين". بحثاً عنها، يتبيّن ان مصدرها هو حساب نبض فلسطين nabdmedia@ في انستغرام (هنا). تاريخ النشر: 24 كانون الاول 2019، عشية عيد ميلاد السيد المسيح لدى المسيحيين. وقد أرفق الحساب الصورة بالتعليق الآتي: "من ارض فلسطين الى كل العالم، ميلاد مجيد" (هنا). 

[[embed source=instagram id=https://www.instagram.com/p/B6dGwv2nI5y]]

-بحثا عن القول الذي أُرفق بالصورة، نجده في إنجيل القديس لوقا 22، الآية 36، ضمن نص "الاستعداد للمحنة" (العهد الجديد، دار المشرق)، أو "الاستعداد للمحنة الكبرى" (الكتاب المقدس- جمعية الكتاب المقدس). 

-في مقالة التدقيق هذه، يجيب مدير دار المشرق الأب الدكتور صلاح أبو جوده اليسوعي عن ثلاثة أسئلة تثيرها الصورة المتناقلة، وتستوجب توضيحاً ملحًّا:  

1-ما صحّة استخدام القول بأنّ المسيح "هو الفدائي الفلسطيني الأوّل"؟ 

أوَّلاً، في ما خصّ لفظة "فداء"، إنّ يسوع المسيح في التقليد المسيحيّ هو "فادي" البشريّة كلّها، وعمل فدائه على صلةٍ وطيدةٍ بتحرير الإنسان من الخطيئة. ليس للفظة إذًا أيّ مضمون سياسيّ. وانطلاقًا من هذا الأمر، لا يجوز أن نقول فيه إنّه "فدائيّ" كما تُفهم اللفظة في إطار الصراع بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين. والتوسّع في هذه اللفظة، في الواقع، يساعد على توضيح الاستشهاد بآية، بل بالأحرى بجزء من آية إنجيل القدّيس لوقا 22: 36 على نحوٍ خاطئ، إذ تُقدَّم وكأنَّها دعوة إلى حمل السلاح: "ومَن لم يَكُنْ عِندَه سَيف فَلْيَبعْ رِداءه ويشتَرِه".

كانت عمليّة "الفداء" في الشرق القديم عملاً بشريًّا، يعني أن "يفتدي" الإنسان نفسه أو آخرين من الموت أو من العبوديّة أو من الأسر، أو "افتداء" حيواناته من القتل أو أرزاقه من مكليّة آخر. وكان الفداء يتمّ عن طريق تقديم فدية أو بديل، قد تكون مالاً أو أشياء ثمينة، وغير ذلك. وعلى سبيل المثال، إذا أسرت قبيلة رجلاً من قبيلة أخرى بسبب سرقة أو خلاف على مرعى أو أيّ جريمة، فكان أهله أو إخوته يفتدونه أو "يفكّونه" بتقديم فدية. ومن ثمّ، وهذا أمر مألوف في الحياة البشريّة، طُبِّقت اللفظة لوصف علاقة الله بشعبه، بهدف إظهار عناية الله بشعبه. فالله يبدو وكأنّه "ملزم" بفكّ أسر شعبه كما أنّ الأهل أو الإخوة ملزمون بفكّ أسر أحد أعضاء عائلتهم. تدلّ العبارة إذًا على ثقة الشعب بإلهه وبوعوده تجاهه بأن يكون معه على الدوام. وبوجه خاصّ، برزت اللفظة في إطار فداء الله شعبه من العبوديّة ومن مضايق أخرى تسبَّبت له بها خطيئته.

في التقليد المسيحيّ، المسيح هو "الفادي"، لأنّه من خلال مغفرته خطيئة الإنسان وشرّه، حتّى قبوله الموت على الصليب، أعاد الإنسان من تغرّبه عن الآب السماويّ وانقطاعه عنه، ومنحه البنوّة الإلهيّة. فتجسّده الذي يكشف عن محبّة الآب الكاملة- إذ لم يكتفِ بأن يُرسل أنبياء وينزل نعمًا من السماء على شعبه، بل أرسل ابنه الوحيد الذي صار وحدًا منّا- وبفضل قيامته من بين الأموات، أثبت أنّ المحبّة أقوى من كلّ شرّ، وأنّ حبّ الآب للإنسان بواسطته حبّ أبديّ مجّانيّ، وأنّ الإنسان يولد من جديد ابنًا وبنتًا للآب السماويّ إذا آمن بعمل المسيح الخلاصيّ، واستسلم للحبّ الإلهيّ. لذا، "فداء" المسيح يعني "الخلاص" الذي حقّقه مجّانًا للإنسان والبشريّة كلّها.

2-ماذا عن الجزء من الآية 36 المأخوذ من إنجيل القدّيس لوقا فصل 22؟ 

تجدر الإشارة، بداية، إلى أنّه من الخطأ اقتطاع آية بل بالأصحّ جزء من آية، من إطارها العامّ، وإضفاء تفسير معيّن عليها. فالموضوعيّة تفترض فهم الآية في إطارها، ومن ثمّ، بشكل أوسع، في إطار رسالة الإنجيل كلّه. وعندما نعرف أنّ التقليد المسيحيّ يُسمّي إنجيل القدّيس لوقا بإنجيل "الرحمة"، نلاحظ فورًا أنّ ثمّة مشلكة كبيرة في طريقة استخدام هذا الجزء من الآية. كيف يمكن يسوع الذي وهو على وشك لفظ أنفاسه الأخيرة على الصليب يصلّي إلى الآب السماويّ قائلاً: "يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون" (لوقا 23: 34)، أن يكون قد دعا إلى حمل السلاح؟ وكيف يمكن أن يكون قد علَّم قائلاً: "كونوا رحماء كما أنَّ أباكم رحيم" (لوقا 6: 36)، أن يكون قد أعرض عن الرحمة، وطلب حمل سلاحٍ يقتل الإنسان؟ أو كيف يمكنه أن يُصوِّر الآب السماويّ كوالد ينتظر بلهفة وألمٍ عودة ابنه الضالّ ليغمره ويقبّله (لوقا 15: 11-24)، أن يدعو إلى حمل سلاح يؤدّي إلى التخلّص من إنسان؟ بل وحتّى عند القبض على يسوع، يقول الإنجيليّ لوقا إنّ أحد تلاميذه، في الغالب هو بطرس الرسول، أخذ سيفًا وضرب خادم عظيم الكهنة الذي كان مع الفرقة التي أتت لتقبض على يسوع، فقطع أذنه اليمنى. فكانت ردّة فعل يسوع على تلامذه: "دعوهم! كفى!". "ولمس أذنه فأبرأه" (لوقا 22: 50-51). في ضوء عمل يسوع وتعاليمه، لا يمكن، إذًا، تفسير هذا الجزء من الآية بطريقة حرفيّة.

ومن ثمّ، إذا أخذنا إطار الآية الواسع، أي الفصل 22، نجد أنفسنا في بداية آلام السيّد المسيح. يبدأ هذا الفصل بخبر تآمر السلطات الدينيّة على يسوع بهدف التخلّص منه، وخبر خيانة أحد تلاميذه. ويأتي بعد هذا العشاء الفصحيّ الذي أسَّس العهد الجديد. ما القصد بهذا العهد؟ قام العهد القديم على يد النبيّ موسى على "اتّفاق" بين الله وشعبه كما نقرأ عنه في سفر الخروج وسفر تثنية الاشتراع (وهما سفران من أسفار التوراة)، يقضي بأن يقبل الشعب وصايا الله ويعمل بها، مقابل أن يرعى الله شعبه ويفيض عليه بركاته. وفي المقابل، إذا خان الشعب العهد وأعرض عن إلهه، يلاقي اللعنات والضربات. ولكي يُضفى على هذا العهد طابعٌ رسميّ، جُمعت دماء ذبائح حيوانيّة ورُشَّت على الشعب ولوحَي الوصايا. أمّا العهد الجديد فمن الواضح أنّه تمّ من طرف واحد، أي من طرف المسيح، وهو عهد أبديّ لا رجعة فيه، وكلّه بركات، لا لعنات فيه، وقد تمّ بدم المسيح وليس بدم ثيران. فقد أوصى المسيح تلاميذه في العشاء الفصحيّ، ومن خلالهم المؤمنين به طوال الأزمنة أن يشربوا من كأسه علامة حبّه الأبديّ: "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يُراق من أجلكم" (لوقا 22: 20).

وفي الواقع، إنّ الإطار الذي يحيط بالعشاء الفصحيّ تسوده الخيانة والنكران والجبن والشرّ القاتل، ويسوع كان يعلم بهذا مسبقًا، وكان يعلم بما سيحصل معه في اليوم التالي، أي عندما يُصلب، ولهذا قال لتلاميذه مسبقًا: "دمي الذي يراق من أجلكم". فقد أعطى معنى موته على الصليب مسبقًا، وهذا المعنى هو هو لا يتغيّر: "الغفران اللامحدود والرحمة اللامتناهية". وهذا يشمل تلاميذه الذين هربوا وتركوه وحيدًا عند القبض عليه، ورسوله بطرس الذي أنكره، ورسوله يهوذا الذي خانه، والسلطات الدينيّة التي أرادت التخلّص منه عن سابق تصوّر وتصميم، والسلطات الرومانيّة التي حكمت عليه بالموت ظلمًا. وغفرانه ورحمته اللذان كرَّسهما في العشاء، عاشهما حتّى نفسه الأخير: "يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون". فالشرّ يعمي الإنسان، ويُلقي حجابًا على ضميره، بل يشوّه ضميره، ويحوّله إلى أشبه بحيوان مفترس. فهل يمكن بعد أن نقول إنّ يسوع قد دعا إلى حمل السلاح؟ بالطبع لا، لأنّ هذا كان ليشوّه كلّ رسالته، بل ينسفها من صميمها.

3-كيف يمكن إذًا أن نفهم هذا الجزء من الآية 36؟

يبدو التفسير الأصحّ حرص يسوع على تتميم كلَّ ما جاء في العهد القديم بشأنه. فبعد أن قال يسوع "مَن لم يكن عنده سيف فليبع رداءه ويشتره"، يضيف فورًا: "فإنّي أقول لكم: يجب أن تتمّ هذه الآية: وأُحصي مع المجرمين" (لوقا 22: 37)، وهذه آية وردت في سفر آشعيا. فقَصْدُ يسوع القول إنّه سيُحاكم وكأنّه مجرم، أي محاكمة ظالمة كاذبة، وهذا ما حصل. ويمكن أن يكون معنى ثانٍ يُقصد به تنبيه التلاميذ إلى أنّ حقبة جديدة ستبدأ بعد آلام يسوع وموته وقيامته من بين الأموات، ستكون مطبوعة بالمحنة والاضطهاد والضيق؛ فرسالة الإنجيل ستشقّ طريقها في عالم معادٍ. ولهذا، بدأ قول يسوع في إطار الآية المباشر بقوله لتلاميذه: "حينَ أَرسَلتُكُم بلا كيسِ دَراهِم ولا مِزَودٍ ولا حِذاء، فهَل أَعوَزَكم شَيء؟" قالوا: "لا". فقال لهم: "أَمَّا الآن فَمَن كانَ عِندَه كِيسُ دَراهِم فَلْيَأخُذْهُ. وكذلك مَن كانَ عِندَه مِزوَد. ومَن لم يَكُنْ عِندَه سَيف فَلْيَبعْ رِداءه ويشتَرِه". فقوله علامة بداية زمنٍ جديد، سيحمل التلاميذ في أثنائه رسالة معلِّمهم، رسالة المغفرة والرحمة، من دون حضوره معهم بالجسد؛ وهذه تبقى رسالة الكنيسة وكلّ معمّد حتّى نهاية العالم.

النتيجة: اقتطاع جزء من الآية 36 في الشكل الذي حصل في الصورة المتناقلة كان "خاطئا" ومسيئا او "مشوها" للمعنى الحقيقي المقصود، اذ أوحى أن السيّد المسيح "يدعو إلى حمل السلاح، بما يشوّه كلّ رسالة الانجيل التي ملؤها المغفرة والمحبة"، على قول الأب أبو جوده لـ"النهار".

كذلك، التعريف بالسيد المسيح بأنه "الفدائي الفلسطيني الاول" غير جائز، ذلك ان" عمل فداء المسيح على صلةٍ وطيدةٍ بتحرير الإنسان من الخطيئة"، و"ليس للفظة فداء أيّ مضمون سياسيّ. وبالتالي لا يجوز أن نقول في المسيح إنّه "فدائيّ" كما تُفهم اللفظة في إطار الصراع بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين"، وفقا لما يشرح. 

[email protected]




الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم