الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

رضا نازه... صفوة الكُتَّاب بعيدًا من صفوف المتعدّين

المصدر: "النهار"
مارلين سعاده
رضا نازه... صفوة الكُتَّاب بعيدًا من صفوف المتعدّين
رضا نازه... صفوة الكُتَّاب بعيدًا من صفوف المتعدّين
A+ A-

"صفُّ وصَفْوَة"، هو عنوان مجموعة من الأقاصيص للكاتب المغربي رضا نازِه، الطبعة الأولى2018، طباعة المطبعة والوراقة الوطنيّة.

رضا نازه اسم اعتدنا أن نراه، من حين إلى آخر، متوِّجًا أقصوصة أو نصًّا شعريًّا، في عدد من الجرائد، كـ"النهار" اللبنانيّة، و"القدس العربي" و"رأي اليوم" اللندنيّتين؛ وعلى مواقع ثقافيّة مثل "ثقافات" الأردنيّة. وما كتاب "صفُّ وصَفْوَة" سوى خزانة جمع فيها نازه خمسًا وعشرين قصّة من هذه الأقاصيص. فيكفي أن نفتحَ دفّتي هذا الكتاب، ونتأمّلَ في ما تتضمّنه كلّ أقصوصة، حتى ننتقلَ إلى عالمه الساحر، أكان من حيث الحدث أو من حيث اللغة. فهو يطير بنا إلى دنيا أدبه الراقي، حيث بنى نصّوصه على ثلاثة أسس رئيسيّة، كانت الدعامة والضمانة لنجاحه: الخيال الخصب، والثقافة الواسعة، ومتانة اللغة؛ وهذه الأخيرة، مجبولة بموهبة ربّانية، ساعدته على تقديم تُحَف فنّيّة جمعت ما بين الماضي والحاضر، وخرجت بحَبْكة مطعَّمة بالحكمة، بما اختزلته من واقع الحياة اليوميّة، حياة عامّة الناس في عالمنا العربي، المحكومين دومًا بسلطة القوي على الضعيف، والرئيس على المرؤوس، أو الحُكّام على الشعوب. وما قصّة "صفٌّ وصفوة" (ص 90) التي اختارها لتحمل اسم المجموعة كاملة، سوى ملخّصٍ لواقع شعوبنا الحزين.

كتاب يختصر واقع شعب

يعكس كتاب "صفٌّ وصفوة" الذي أهداه المؤلف، في افتتاحيّته، إلى أسرته: والديه وإخوته، ملامحَ رضا نازه الإنسان، ذي الإحساس المرهف. تلخّصُ أقاصيصُه واقعَ شعب يرزح تحت نير الفقر وظلم المتسلّطين أصحاب النفوذ، يقول: "...كنت أغطّي لبعض الجرائد أخبارَ الثقافة... مقابلَ أجرٍ يَعْبر بي خطَّ الفقر بقليل، ولا علم لإدارة الضرائب به، وإلا لكانت شاركتني الفقر واقتطعت منه. الفقر مع الصبر الجميل يُحتسبان في الوعاء الضريبي." (ص 9)

يدخل نازه في تفاصيل حياة الناس العاديّين، ينقل وجعَهم، مشاعرَهم المكبوتة وأفكارَهم المكتومة، كونه واحدًا منهم، عاش في ظهرانيهم، كما لو أنّه مارسَ المِهَن التي يشتغلونها: "ينقل المراسلات بين موظّفين جالسين يحسدونه على الحركة وهو يحسدهم على الجلوس. المخادعون!... أجرة جلوسهم أضعاف أجرة حركته..." (ص 29 رقّاص)

وغالبا ما نجد في نصوصه هذا الدمج في وصف حياة القصور، يقابله وصف لحياة الفقراء في الأقبية الحقيرة الخالية من عناصر الرفاهية والزخرف. (ص 30)

أسلوب نازه الأدبي وثقافته الواسعة

وظّف رضا نازه معارفه مستفيدًا منها لصالح نصوصه، مضيفًا رابطًا لعناوين أقاصيصه، بمثابة عنوان داخليّ، يستشهد فيه ببيت شعريّ أو قول مأثور يختصر مضمون النص. فأتت عناوينه مزدوجة. كما اعتمد في سرده على التناص، ما يشي بعمق ثقافته، وتأثّره بكثير من الأخبار التي عايشها أو جاورها خلال قراءاته العديدة، وما ولّدته فيه من مشاعر كانت سبيلَه لنقل صورة دقيقة وصادقة لواقع كلٍّ من شخصيّاته. كما في توظيفه لرواية "العطر" للكاتب الألماني باتريك زوسْكينْد التي تحكي قصّة قاتل هو ضفدع (ص 31)، واقتباسه لشخصيّة "الأخ الأكبر" في رواية جورج أورويل (ص 33)، وغيرها كثير.

رضا نازه المعتزّ بانتمائه: "ارفع رأسك أنت مغربيّ!" (ص 12) صاحب الخيال الواسع، واللغة المتينة، والصور الأنيقة: "في البهو أمواج أجساد أنيقة تغلّفها غُلالة عطور باريسية." (ص 11)، أو قوله: "مزاجهم تتعاقب عليه الفصول الأربعة في ساعة واحدة." (ص 26)، وفي موضع آخر قوله: "دخل الغريب القرية لدى الغروب وقد تأبّطها الظلام جملة". (ص 76)... هو فريد كذلك في ما تولّده لديه الروائح من صوَر: "وصرت أجدُ رائحة المازوت كعرق عملاقٍ من حديد". (تَذمُر ص 147)، أو قوله: "انتقى ثيابا نظيفة دافئة ببقايا حرارة النهار. تنسّمها. بالمجان. راقه فيها عبقُ حُقّة مسك نفيس بين ملابسه قد استقدمه من أقصى الشرق ليبيعَه في أقصى الغرب، بثمن أخفته الشمس عن القمر". (ص 76-77)

تكثر في أقاصيصه الصور الأدبيّة الجميلة، غير المسبوقة، تُضفي على مرويّاته جوًّا أدبيًّا يرفعها إلى مستوى الأدب الرّاقي، الذي لا يكتفي بالسرد لمجرّد السرد، وإنّما ينطوي على ذوق فنّيٍّ مُشبع بالعاطفة النبيلة، والحسّ المرهف، يتوسّلهما الكاتب لإيصال رسالة إنسانيّة، هدفها الأوّل الجمال بشكل عام، والإيجابيّة. مضيئًا على ما في الأرض من شرور تكرّست أمرًا واقعًا، كأنّه يضعها تحت المجهر، مؤكّدًا بطريقة غير مباشرة على ضرورة استئصالها من مجتمعاتنا، لخلق مجتمع يتنعّم ناسه -كلُّ ناسه- بالخير، فلا يقتصر على فئة من دون أخرى، ويعيش فيه الإنسان وكرامته مصانة.

يستحضر نازه الرابط التشبيهيّ بسهولة مذهلة، فالمثال يأتيه من حدَث صغير قد يمرّ أمام كلّ مِنّا من دون أن نتوقّف عنده؛ يصطاده ويسخّره لتقريب الصورة، مستعينًا بمعرفته لكيفيّة تفاعل كلِّ إنسان، من أيّ جنسٍ أو عمرٍ كان، ليكون الانعكاس الذي يضيء الحدث، كانعكاس الضوء في المرآة، يساعدك لترى وجهك من دون أن يكون الضوء وجهك: "كان كصبيٍّ أُهديت له مظلّة فصار يسبُّ الجوّ الصحو ويستعجل المطر". (ص 85)

دعابة وفكاهة وتناصّ ورشاقة في الأسلوب

يجنحُ رضا نازه ناحية المرح في طبعه، ما يعكس نضارة شبابه الميّال إلى الدعابة والفكاهة للتخفيف من حدّة الواقع وبشاعته، وعرضه بصورة كاريكاتوريّة لطيفة، فإذا بأقاصيصه تنتهي أحيانًا بنهفةٍ أو طُرفةٍ غير متوقَّعة، كما في أقصوصة "رقّاص" حيث تحوّلت أحلام ساعي البريد الموظَّف الفقير، بفتاة ساحرة، هي ابنة مدير الشركة التي يعمل فيها، إلى واقع صادم، حين يكتشف أنّها مصابة بخلل في الجينات (الكروزومات) أو "التريزومي 21" (أو متلازمة داون) الذي يُطلق على المصابين به صفة المنغوليين، لاستطالة شكل عيونهم وشبههم بشعب منغوليا.

في أقصوصة "عازف" (ص 59)، يسحرنا أسلوبه في السّرد سحرَ العازف في القصّة، يسيطر بموسيقاه على من يسمعها من الكائنات... كما تبهرنا حبكته التي تنطوي على حنكة في ربط الأحداث واعتماد عنصر المفاجاة فيها، مستعينًا كعادته بالتناص، بدءًا بشمس ديوجين وظل الإسكندر، وصولا إلى ناي جبران وحمّام عطره الذي نشّفه بالنور: "إعتنِ بالأطفال... هم المستقبل.. علِّمهم فطرة الناي وحنينه إلى شجرته في موطنه الأوّل.. علِّمهم سُكنى الغاب دون القصور.. واتّباعَ السواقي والتنشُّف بالنور.. وعلِّمهم أنّ الناسَ حروفُ ماءٍ اصطفَّت في سطور.."! (ص 74)

كما يساعده أسلوبه الرشيق، وتمكّنه من اللغة، إذ تنساب الحروف والكلمات مطواعة، ويجري القلم بين أنامله لا شيء يعرقل مسيره، بل تراه يهرول جاريًا، تُسابق كلماتُه المشهد، خوفَ أن يفوته شيء منه، فنراه أمامنا كأنّنا نرقبه معروضًا على شاشة: "هبَّ مقشعرًّا ذاهلا تاركًا متاعه وقبقابه. سارع غير مبال بالانزلاق، بل تمناه علّه يبلغ الباب بسرعة... كبّر الرجل وسبّح وحوقل وأطلق للريح قدميه الحافيتين. كاد يسقط مئزره، ولو أن أحدًا أمسكه لزهد فيه كذلك دون تردّد." (ص 79-80). وقوله: "كان زميلًا يتذمّر من "كلّ" شيء ومن الأشياء الأخرى إن لم يستوعب ظرف "كلٍّ" كلَّ شيء..." (تَذمُر ص 147).

المقاساة أمهر نَحّات

لدى نازه قدرة عجيبة على توليد الأقاصيص، إذ يغرف من عمق واقعنا العربي، يستخلص منه فسائل مختلفة الأشكال، من السياسة إلى الجنس فالخرافة فالتاريخ... يغرسها ويعتني بها، فتتفتّق براعم من حدث عابر، يتفتّح مولّدًا حدَثًا إثر حدَث، بتناغم دقيق في بُتُلاته، إذ عنده الشيء بالشيء يُذكَر، ليصل قمرُه إلى الاكتمال متجانسًا متناغمًا، شكلًا ومضمونًا، مبنًى ومعنًى، فيُمتعنا بتواصل حلقاته ومتانتها، بلا تصنّع أو معاناة في وصل الِفكَر وشحذها، وإنّما تنساب متتالية حتى يكتملَ المشهد بِبُعْدَيْه الزماني والمكاني، مغرقًا في الماضي بعدما انطلق من الحاضر، مستخرجًا من بستانه حِكَمَ الأجيال عبر العصور: "كدت في لحظة أعتذر له عن نجاتي منه ومن عصابته، وكاد يفرضُ عليَّ سلطته. هناك فهمت أنّ السلطة هي فنّ خلق عقدة الذنب لدى الأبرياء." (ص 150)؛ أو قوله: "ربما التماثيل أشخاص حقيقيّون قد تجمّدوا وتكلّسوا من مقاساة الأزمنة الغابرة ونحن نتعجب عند رؤيتهم ونقول: "يا له من نحّات بارع!" المقاساة أمهر نحّات". (ص 98)

عنايةٌ بالشكل والمضمون

كل ّما في الكتاب يُظهر عناية الكاتب بعمله شكلا ومضمونًا، وقد كتب في نهايته توضيحًا يشير إلى إضافة بعض التعديلات على قسم من الأقاصيص لم تكن موجودة عند نشرها في الصحف، بغية تقديمها للقارئ على أفضل وجه: "خضعَتْ لمزيد من التنقيح والتصويب من لدن المؤلف، خدمة لمعانيَ (كذا) أرادها أن تخرج في ما أمكن في أحسن المباني" (ملحوظة ص 173). وإن فاتته بعض الهفوات الصغيرة، كما في الصفحة 53 عند ورود العدد الترتيبي (تكرّر الخطأ نفسه مرّتين)، حيث يقول: "السمفونيّة الثالث عشرة"، والصحيح: السمفونيّة الثالثة عشرة. أو كتابته لهمزة "مِلْء"، المتطرّفة بعد ساكن، على الألف، هكذا: "مِلأ"، عوض كتابتها على السطر.

ولكن ذلك لا يبخّسُ قيمة كتابات رضا نازه الذي يُدهشنا بالنسج البديع لأقاصيصه، تأتي مثقلة بالخير، من جماليّة في السرد إلى غنى معرفيّ محمّلٍ ببديع المرويّات عبر التاريخ، إلى تضمين يختزن حكمة موجّهة تنحو باتجاه الخير العام وسعادة الإنسان؛ فإذا بكتابه كَرْمٌ مليءٌ بالعرائش، تتدلّى منها الأقاصيص برّاقة كعناقيدَ يتلألأُ عبر حبّاتِها نورُ الشَّمس صافيًا ذهبيًّا كاشفًا دواخلَها.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم