الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

الانتفاضة اللبنانية بين استقلالية الفرد واستقلال الوطن

المصدر: "النهار"
غسان صليبي
الانتفاضة اللبنانية بين استقلالية الفرد واستقلال الوطن
الانتفاضة اللبنانية بين استقلالية الفرد واستقلال الوطن
A+ A-

"يطل علينا عيد الاستقلال هذه السنة بحلة جديدة".

الأصح القول، إن الشعب اللبناني هو من يطل على العيد بحلة جديدة.

السنة الماضية كان المشهد كئيبًا. التبعية للخارج، السياسية والعسكرية والمالية، بلغت ذروتها، في حين ان الرؤساء الثلاثة كانوا يتصدرون منصة العرض العسكري لجيش لا يثقون بقدرته على حماية الوطن ولا يعملون لتقويته. ومن ثم ينتقلون الى القصر الجمهوري لتلقي التهانئ باستقلال يهابونه لأنه يهز الاساس الخارجي لسلطتهم.

حتى إن التمرينات على العرض العسكري ازعجت الناس بسبب قطع الطرق لساعات طويلة وتسببت بزحمة سير خانقة. والشعب وقتذاك، اليائس والمفقر، لم يشأ ان يضحي بوقته واعصابه من اجل استقلال مفقود.

على عكس السنة الماضية، حلّت هذه السنة وكأن الشعب من خلال انتفاضته، كان يجري هو تمرينات على العرض في الساحات وقبل أكثر من شهر من الذكرى. هذا العرض المدني الذي تنظّمه الانتفاضة في ساحة الشهداء يوم العيد.

لم تطرح الانتفاضة بعد بشكل صريح قضية الاستقلال، وقد لا تطرحها في وقت قريب، لكن رموز الاستقلال كلها حاضرة في الساحات: العلم اللبناني، الأغاني الوطنية، الاشادة بالجيش اللبناني.

كما ان الانتفاضة تحمل بجيناتها، إذا صحّ التعبير، بذور الاستقلال.

الجيينة الأولى: استقلالية الفرد

تبعية الوطن للخارج تتم من خلال تبعية الدولة بقواها السياسية لهذا الخارج. وهذا لا يمكن ان يتم إلاّ من خلال استتباع المواطنين لهذه القوى السياسية.

الانتفاضة شهدت صعود الفرد، الشاب والشابة خصوصاً، المنعتق من العائلة والطائفة والحزب، وجميعها عندنا مؤسسات تؤهّل الفرد للتبعية لقوى الخارج.

هذا الانعتاق عبّر عنه بشتى الطرق ومن بينها الشتائم التي وجهت الى شخصيات سياسية أسقطت عنها هالتها. وإذا كانت هذه الاستقلالية هي ترجمة لثقافة الحرية التي يحملها شباب الإنتفاضة، إلاّ انه لا يمكن اعتبارها ثقافة شبابية عامة في البلد.

فشباب "حزب الله" مثلاً عبّر عن امتعاض من هذه الثقافة "المستقلة" عن المرجعيات، وقال أحد شبان "الحزب" عندما سئل بماذا يطالب السيد نصر الله، "اننا لا نطلب من السيد بل هو الذي يطلب منا". كذلك فعل بعض الشباب العوني وفي مقدمهم جبران باسيل، عندما قالوا: "انهم لا يتظاهرون دعمًا للرئيس فهو من يمدهم بالقوة".

المواطنون اللبنانيون، الشباب تحديدًا، يشاركون في الانتفاضة كأفراد مستقلين. وهذا ما يفكك التبعية عن قاعدتها الاجتماعية السياسية في التركيبة اللبنانية العائلية والطائفية. حتى إن "شهادة حسن سلوك" المنتفض أو المنتفضة أصبحت الاستقلالية عن أحزاب السلطة ذات التركيبة الطائفية.

الجينة الثانية: وحدة الشعب

خرج الشعب اللبناني في انتفاضته إلى الساحات موحدًا بالمعنى "اللبناني" للكلمة، أي كمجموعة أفراد أو مواطنين، بعيدًا من الانقسامات الطائفية والمناطقية. الانقسامات الطائفية هي الأساس الذي تبنى عليه تبعية الأفراد – المواطنين للأحزاب الطائفية، التابعة بدورها للخارج. هنا أيضاً لا تنطبق هذه "الوحدة" في الانتفاضة على الشعب كله، بل تبقى خارجها كتل شعبية من منابع طائفية مختلفة، أكبرها حجماًٍ على ما يبدو الكتلة الشيعية، التي تعبّر اكثر من غيرها عن معارضتها للانتفاضة او عن حذرها منها.

الجينة الثالثة: وحدة السلطة التابعة او "كلن يعني كلن"

لم يساهم شعار "كلن يعني كلن" في وضع أطراف السلطة في سلة واحدة فحسب، بل حرّر الانتفاضة من الوقوع في فخ تفضيل تبعية على أخرى، هذا التفضيل الذي كان يغذي استمرار الانقاسامات الوطنية حول من يجب ان يتبع: فرنسا أو العرب، اسرائيل أو سوريا، إيران أو اميركا. كأن التبعية قدر لا مفر منه، لكن علينا ان نختار لمن.

مثلها مثل جينات الخلايا الانسانية، تحتاج جينات الاستقلال الثلاث الى بيئة ملائمة حتى تتفاعل معها وتعطي ثمارها.

النزعة الاستقلالية بدأت بالفعل تطال المؤسسات والمنظمات: استقلالية القضاء أصبحت على رأس مطالب الانتفاضة واستقلالية النقابات عن أحزاب السلطة بدأت مع انتخاب ملحم خلف رئيسًا لنقابة المحامين.

لا يمكن القول إن هذه النزعة الاستقلالية وصلت الى استقلال الدولة والوطن عن الخارج. الكتلة الشعبية الكبرى في الانتفاضة اي الشباب، لا موقف واضحاً حتى الآن لها من هذه القضية. لا بل ان الشباب على الأرجح يتفادون الخوض في هذا الموضوع لانه يزجّ بهم في أتون الانقاسامات السياسية في البلد حول هذا الموضوع المرتبط حكمًا بسلاح "حزب الله"، ولا سيما في ظل اشتداد الضغط الأميركي على الحزب. رغم صدور بعض الهتافات ضد الحزب من هنا وهناك.

"الجيل القديم" يبدو أكثر وضوحًا. هذا ما يتبدى على الأقل، من نصين صادرين حديثًا عن جهتين مشاركتين في الإنتفاضة.

الجهة الأولى، المؤلفة من الحزب الشيوعي والتنظيم الناصري والكتلة الوطنية وأطراف آخرين بينهم جمعيات مدنية، وزعت في ما بينها ورقة للنقاش بغية توضيح مواقفها.

تضع هذه الورقة في أولوياتها "دخول لبنان مرحلة انتقالية عنوانها الأساسي كسر الاحتكار السياسي للسلطة والإعلام ومؤسسات الدولة والنقابات وسائر هيئات المجتمع المدني، التي تهيمن عليها قوى سلطوية تابعة ومرتهنة للداخل وللخارج".

لا تتردد الورقة في اعتبار قوى السلطة قوى تابعة وإن كانت ترى تبعيتها للداخل والخارج على حد سواء، لكن لا تحديد في النص لهذا الداخل والخارج.

الورقة الثانية صدرت عن "مواطنون ومواطنات في دولة" بتوقيع أمينها العام شربل نحاس. لا تتهم الورقة السلطة السياسية مباشرة بالتبعية لكنها تعتبر ان اليد الطولى "في منطقتنا هي يد الهيمنة الأميركية وشركائها الغربيين وبخاصة ذراعها المحلية إسرائيل". ولا إشارة في الورقة الى أي "يد وسطى او صغرى".

لا تقارب الورقة سلاح "حزب الله" من باب تبعية الحزب لإيران وسياساتها، او من باب وظيفته الاقليمية، بل من باب النظام الطائفي اللبناني حيث ان "النقاش في السلاح يجب ان يتمحور حول انتقال المقاومة مع الحفاظ على فعاليتها، من مقاومة طائفة الى منظومة وطنية، عسكرية طبعًا، لكن أيضا اجتماعية واقتصادية، تتوزع اعباؤها على الجميع كما يعود نفعها الى الجميع". لا اشارة في الورقة الى طبيعة العلاقة بين هذه "المنظومة الوطنية" والدولة.

وإذ تقر الورقة بالاختلاف مع "حزب الله" "جذريًا في المقاربة السياسية الداخلية" وبأنه "الأقوى بين حلفائه، منه يستمدون قوتهم السياسية والانتخابية" إلا انها لا تتساءل البتة عن سر هذه القوة، وما إذا كان لها علاقة بالسلاح الذي يمتلكه.

فهذه الورقة ومثلها الورقة الأولى، تركز على اهمية بناء الدولة المدنية، لكنها تهمل كلياً مسألة الديموقراطية اي مسألة نظام الحكم الفعلي في لبنان، الذي يتأثر بالتأكيد بوجود السلاح في يد فريق بدون الفرقاء الآخرين. كأن الورقتين تفترضان أن الدولة المدنية تعالج تلقائياً مسألة الديموقراطية، في حين أن الامثلة كثيرة من حولنا عن دول مدنية مستبدة.

الديموقراطية هي الطريق الوحيدة التي تسمح "لاستقلالية الأفراد" بالتعبير عن نفسها وبناء استقلال الدولة والوطن، والا بقيت السلطة السياسية "مستقلة" عن استقلالية الافراد وقادرة على استتباع نفسها الى الخارج.

الاستقلال المقصود هنا ليس استقلالاً سياسياً وعسكرياً فحسب بل اقتصادي ومالي أيضًا. ولا يتأمن الاستقلال المالي والاقتصادي بالديموقراطية وحدها، بل بنظام اقتصادي منتج وعادل.

إنها قضايا ستطرح بالطبع على الانتفاضة في مسيرتها لإعادة بناء الدولة والمجتمع، في بلد أصبح جزءًا من نظام إقليمي يشهد حالياً تجاذباً حادًا للسيطرة عليه، من قوى دولية واقليمية اهمّها اميركا وروسيا وايران وتركيا والسعودية.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم