الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

في طرابلس حركة طالبية تولد من لبنان تريد أن تلِدَ لبنان (صور وفيديو)

المصدر: "النهار"
جودي الأسمر
في طرابلس حركة طالبية تولد من لبنان تريد أن تلِدَ لبنان (صور وفيديو)
في طرابلس حركة طالبية تولد من لبنان تريد أن تلِدَ لبنان (صور وفيديو)
A+ A-

تحبّ جُمانة الثّورة وتحبّ القمر. يُقال إنّ محبّي القمر حالمون. وتقول الصّبيّة، إنها اليوم فتحت عينيها، وراحت تمشي نحو الحلم.

إنها الويك آند. امتنعت تلميذة البكالوريا عن الغوص في النّوم- لأنّ مسيرة لها ولرافقها تنتظرها في ساحة النّور. المسيرة تنطلق عند العاشرة والنصف، لكن نهار جُمانة بدأ منذ السابعة، فهي ممّن يحشد ويساعد وينسّق وينظّم منذ أيّام لمسيرة تلامذة وطلّاب. تتحرّك في السّاحة، منشغلة كأمّ العروس في زفافها، تريد التثبّت من كلّ التفاصيل لحظة بلحظة. ترتدي بلوزة بيضاء صيفية كتب عليها selenophile (شخص يحبّ القمر) وسروالاً أسود واسعًا مع حذاء كونفرس، يعينانها على التّحرك بخفّة. بمظهرها المودرن، تشبه آلاف الشّباب والصّبايا الّذين يتجمّعون منذ نصف ساعة في ساحة النّور. تارّة بالكلام، وتارّة بيديها الّتي تحمل في إحداها كدسة أوراق، تحاول الصّبيّة تجنيب الشّباب الخروج عن شريط المسيرة. تدعوهم لصناعة حزام بشري يحصر امتدادهم الّذي يتعدى الـ 300 متر من ساحة النّور، إلى إشارة المئتين. ويمشي الشباب، وتعلو الهتافات. فتُحقن "عروس الثّورة" بكولاجين إضافيّ ضاعف إشراقتها، وبأدرينالين جديد ضاعف طاقتها. انطلقت المسيرة تجوب طرابلس، وانتفخت شرايين المدينة.

ثلثاء التّمرّد وسبت الثّورة

تحلم جمانة ورفاقها بلبنان جديد. خطوتهم الأولى نحو الحلم بدأت صباح الثّلثاء. حين دخلت جمانة كسار (17 سنة) ورفاقها إلى مدرستهم "راهبات العائلة المقدسة" (عبرين) ليس ليتعلّموا، بل ليدعوا رفاقهم للخروج من الصّفوف. صاروا 20 طالبًا خارج البوّابة، يهتفون "كلّن يعني كلّن" و"ما بدنا درس وتدريس حتّى يسقط الرّئيس". بعد دقائق، ينضمّ إليهم طلّاب من الجامعة اللّبنانيّة، ويمشون معًا لإغلاق مصارف الميناء. بعد برهة، يأتي عنصران من الأمن ليقتادا شابين إلى جهة مجهولة، فتعود جمانة مع أصدقائها إلى المدرسة يخطّطون للآتي. وكان الآتي أعظم. بعد الظّهر، تطلق جمانة مجموعة على الواتساب أسمتها "مجموعة الثّورة"، تضيف إليها تلامذة من مدارس العزم والرّوضة الّتي كانت قرّرت استئناف الدّروس، وبدأت التّنسيق مع جامعات ومدارس من الشّمال.

في طريقهم، وتحت شمس الظّهيرة الحادّة، أعطى الشّباب نموذجًا نقيضًا عمّا يحدث في المسيرات الّتي تتفكك في غضون دقائق. الكثافة تزيد، والهتافات لم تخبُ. على البلاكين، يلتقط الأهالي الصّور، أو ينضمّون للطّلاب على وقع الطناجر الّتي يقرعونها. يحافظ الدفق الطالبي المذهل على تماسكه طوال المسيرة. وبسرعة البرق، تتسرّب مجموعات عند السوبرماركات والدكاكين الصغيرة، يغزونها ليطفئوا عطشهم، ثمّ يهرولون للّحاق بالحشد. بعدما تنقّل الشّباب من ساحة النّور إلى إشارة عزمي، ثم مرّوا بالمئتين وانحرفوا باتجاه نقابة الأطباء، وأكملوا سيرهم نحو طريق المعرض وصولًا إلى ساحة النّور، كانت باصات المدارس من الضّنّية تسارع في طريقها، ترفرف من شبابيكها أعلام لبنانيّة، ثمّ تنزل إلى ساحة النّور بالقرب من أعلام ثائرة أخرى يحملها الطلّاب.

17 تشرين الأول يعيد تشكيل الحركة الطالبية

ليس هذا الحراك الطّالبي الأوّل في تاريخ طرابلس، لكنّه الأوّل الّذي تشهده طرابلس في الألفيّة الثالثة. وهو أيضًا وخصوصًا، الحراك الأوّل الّذي يحفّزه بناء لبنان، بدون امتدادات خارجيّة أو حتّى تغذية ميليشياويّة.

ففي سجلّها التسعيني، تطوّر شريط الحراك الطالبي في طرابلس على هذا النّحو: طلّاب الثانويّات الّذين شاركوا في تظاهرة يوم الخميس 11 تشرين الثاني 1943، هتفوا "تسقط فرنسا.. تسقط فرنسا"، دهست دبابات المستعمر عددًا منهم، بينما التلميذ "أحمد الخطيب" ابيضّ شعره بعد يومين من الحادثة، حسب رواية موثقة للرّاحل عبد المجيد الرّافعي الّذي شكّل لاحقًا مع رفاقه نواة حزب البعث المرتبط بالعراق. في الخمسينيّات، تأثّرت مجموعة من الشّباب بالنّكبة الفلسطينيّة، فأسست "حركة القوميين العرب" الّتي نقل عنها الكاتب خالد زيادة في روايته الذاتية "يوم الجمعة.. يوم الأحد" تسلّل عناصر المخابرات إلى اجتماعاتهم في قهوة التلّ العليا. لاحقًا، تعاطى اليسار والمنظمات الفلسطينيّة مع طرابلس كملعب لعملهم الحزبي، فنشأت "حركة 24 تشرين" عام 1969 بزعامة الراحل فاروق المقدم.

ولكن، بين تشرين الأول 1969 وتشرين الأول 2019، يباعد خمسون عامًا، وألف سنة ضوئيّة من الوطنيّة الّتي أينع حصادها. نجول بين الطلّاب، فنفهم أنّ حراكهم الأخير نظيف، بريء، لبنانيّ، جميل، وناضج، يشبههم.

ففي ساحة النّور، نلتقي أنطوني (19 سنة) الّذي يحلم بأن تتطوّر البحوث العلمية في لبنان، لكي لا يضطرّ إلى السفر للخارج ليستثمر شهادته في علوم الحياة. في نقابة الأطباء، يعتبر هادي (23 سنة) أنّ قانونًا انتخابيًا خارج القيد الطّائفي، سيضمن له وجود نوّاب كفوءين يهتمّون لمطلبه في إيجاد عمل لائق. عادل (17 سنة) الذي ينقّل لافتته بالقرب من جامع السلام، يحلم بدراسة الصيدلة، لذلك جاء يطالب الجامعة اللبنانية بفتح كلية صيدلة في طرابلس، لأنّ ليس لديه المال الكافي ليسجّل في جامعة خاصة، ويؤمن بأنّ اللامركزية التعليمية حقّ له. طالبٌ يطالب بتعديل المناهج، وآخر على بعد أمتار في شارع الميناء، يقول لنا "لا نستفيد من الرياضيات والفيزياء والتاريخ شيئًا. مناهج مهترئة حان وقت تجديدها".

هتافات شبابيّة لا يخترقها صوت إلى/من خارج حدود لبنان، من كان يعتقد بأنّها ستتصاعد وتتشابه وتتواتر، فتحيك "كانفا" حقوقيّة منسجمة، من طرابلس حتّى النّاقورة؟ وليس من المبالغ القول بأنّ هذا التدخل الطالبي، يشكّل اليوم درع الوقاية الأهمّ ضدّ محاولات تفشيل الثورة أو تخوين صنّاعها. ففي الأسبوع الثّالث للثوّرة، منذ شمّر تلامذة وطلاب طرابلس ولبنان عن سواعدهم، قاموا بليِّ الأيدي الميليشياويّة الّتي لن تتجاسر على شباب دون السّنّ، فضلًا عن كثافتهم وامتداد هذه الكثافة الّتي تجهض محاولة تصويرها على أنّها زمرة من المراهقين.

المشهد الأكثر راهنية في ثورة طرابلس، يعيد إنتاج الحركة الطالبية بصفاء الـ"لبنان" الّذي يهتف التلامذة والطلاب له. حركة ولدت من لبنان لتلد لبنان. لا تمولّها سفارات، ولم تدرّبها الميليشيات. لا مركزية، انتخابات بدون موازين طائفية، تعديل مناهج، تطوير بحوث... أصوات طلاب التزمت حدود لبنان واخترقت مناطقه. بعكس ما فعل أهاليهم. وإن استمرّوا سينجحون، بعكس ما فشل أهاليهم. معادلة إيجابية يرسيها المنطق، لكن جُمانة الّتي تحبّ الثّورة وتحبّ القمر، تختم حديثها معنا بالقول إنّ شعورًا يلامس اليقين أخبرها أنّ "بكرا أحلى".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم