الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"الثورة" اللبنانيّة لا تحتاج إلى بطلٍ مُنقذٍ

منى فواز
"الثورة" اللبنانيّة لا تحتاج إلى بطلٍ مُنقذٍ
"الثورة" اللبنانيّة لا تحتاج إلى بطلٍ مُنقذٍ
A+ A-

مع دخول انتفاضة لبنان أسبوعها الثالث، يتصاعد مستوى القلق لدى اللبنانيين المتصاحب مع أمل بغدٍ أفضل. وتستمر التساؤلات بالنسبة لبداية عمليّة التحوّل السياسي الحقيقيّة إثر استقالة الحكومة؛ إذ أنّ الخوف من الفوضى، التي تغذّيها الأحزاب السياسيّة في السلطة والهَجمات التي ارتُكبت مؤخّرًا ضدّ بعض المُعتصمين، يتّضح أنّها تهدف إلى إفراغ الشوارع؛ بالإضافة إلى موضوع غياب "قائد" الإنتفاضة الذي يتداول بين عددٍ من المُراقبين ويقلقهم أحيانًا.

قِصَص الخيال

"هل لديكِ اسم؟" "من هو؟" "فقط أعطني اسمًا..." هذه هي الأسئلة التي واجهتها، بصفتي ناشطة أصبحت معروفة جيدًا من قِبَل جزء من الجمهور، في الأيّام الأخيرة. ويمكننا تبرير الحاجة إلى هذه الطمأنينة التي يبثّها وجود "بطل" أو "مُنقذ". ومع ذلك، يبدو لي أنه ينقل شيئًا من القلق بشأن طبيعة آمالنا والطريقة التي نبني بها تصورنا لهذه الفترة الانتقالية.

في الحقيقة، تجدر المقارنة بين البطل المنتظر والأمير الوسيم الذي ينقذ الأميرة من زوجة الأب اللّئيمة. لكن في الحياة الواقعيّة، "السعادة الأبديّة" ليست متاحة، خصوصًا إذا ما وقعتَ في الحبّ من النظرة الأولى وتحوّلتَ إلى زواج في غمار اللّحظة. في الثورات، لطالما تحوّل البطل إلى طاغية جديدة. وقد يحدث الأسوأ، وهو تسليم الإنتفاضة لمن يمكنه التحدّث بإسمها، ولكن ليس لمصلحة الذين أشعلوها. فهل هذا يعني أنه يجب علينا التخلّي عن أي إمكانيّة لقيادة الحراك والقبول، عوضًا عن ذلك، بحكم المافيا؟ ليس ذلك المقصود على الإطلاق.

هذه اللّحظة هي حقًّا للأمل: بينما اضطر المتظاهرون في بعض الأحيان إلى دفع ثمن باهظ، كما يتّضح من أعمال العنف والضرب التي وقعت هذا الأسبوع في عدّة مناطق، فقد حقّقوا بالفعل نصرًا هائلًا.

فبالرغم من العنف الذي شهدناه في مواقع متعدّدة، والإعتداءات التي نتعرض إليها والثمن الباهظ الذي يضطرّ الكثيرون تسديده، لقد حقّقنا حتى الآن فوزًا عظيمًا وينبغي لنا الإحتفاء به.

في الأيام الأخيرة، توحّد الشعب اللّبناني تحت مطلب الحياة الكريمة، مدركًا أنّ ذلك لا يمكن تحقيقه سوى بعمليّة تحوّل سياسي. يَعي الجميع، بِمن فيهم سائق "السرفيس" الذي أعادني ليلة أمس من التظاهرات، وحرّاس الأمن الذين أتحدّث معهم كلّ اليوم، والمرأة التي تشاركت معي مظلّتها تحت المطر، وهتافات الطلّاب على إمتداد ساحة الشهداء، والمتظاهرون الذين أتوا إليّ طالبين التطوّع في "بيروت مدينتي"، هؤلاء جميعهم يعون أنّ الأزمة الإقتصاديّة ليست مجرّد مشكلة "تقنيّة". وعلى سبيل التغيير الإيجابي، لا يقتصر الأمر على سكّان بيروت. من النبطية إلى حلبا، مرورًا ببعلبك وصور وطرابلس، يبدو أنّ الوعي نفسه بدأ يتكوّن ويتعزّز، إنّها "مشكلة سياسيّة"، المشكلة نفسها التي يبتلي بها البلد منذ عقود، والتي تقود معظم المواطنين إلى تنظيم حيواتهم وفق إعتبارات طائفيّة، وتجبرهم على تقديم ولاءاتهم لزعماء الطوائف. لن يفيد صندوق النقد الدولي في حلّ هذه المشكلة -وكأنه نجح في حلّ أي مشكلة من قبل- كما لن يحلّها إسقاط "فريق من التكنوقراطيين" القادمين من عاصمة العالم المجيدة. وحدها العمليّة السياسيّة العلمانيّة المدنيّة التحوّلية قادرة على معالجة أزمة قلة العدالة الاجتماعية والفساد، وهذا ما تطالب به أصوات كثيرة.

تنظيم فترة الانتقال

لكنّنا لم ننتصر بعد، ولكي نضمن نجاح هذه اللّحظة التحوليّة، لا بدّ لنا من تخيّل العمليّة الإنتقاليّة. سوف يتطلّب الأمر، بلا شك، الإستمرار في الحشد وتحريك الشارع، لأنّها الطريقة الوحيدة لقلب ميزان القوى. وفي ذلك يكمن الدرس الأول لأي عمليّة تحوّل سياسي، وقد يتطلبّ منّا ذلك عصيانًا مدنيًّا، وتدخلّات مباشرة لامركزيّة، واستراتيجيّات خلّاقة على الأرض. كما سيستدعي مناظرات سياسية لامركزية، محاضرات تثقيفيّة، مساحات نقاش مفتوحة، منتديات عامّة، مجموعات مغلقة للتفكير، وأكثر من ذلك. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي إنشاء الهيكليّة لمرحلة إنتقاليّة، أضف إلى ذلك ضرورة وضع هيكليّة للمساءلة، لتكون نسختنا الخاصّة عن هيئة الحقيقة والكرامة التونسيّة، والتي ستتوّلى التحقيق في السرقات والجرائم التي ارتكبتها الطبقة الحاكمة.

سيتطلّب الأمر من المغتربين اللبنانيين، في هذه المرحلة الإنتقاليّة، أن يؤمنوا مجدّداً بالبلد وأن يستثمروا في موارده. كما سيتطلّب منّا إدراك أن الضرر، الذي لحق بالمجتمع لفترة طويلة، لن يتمّ محوه بين ليلة وضحاها، وأن الفساد قد تسرّب إلى جميع الدوائر الاجتماعيّة تقريبًا. إن كلّ ذلك يحتّم علينا تحويل استراتيجياتنا لأنه، وبغض النظر عن مدى قدرة الشارع على التصحيح والتقويم، فإن لحظة التفكير في التراجع آتية لا محال. ينبغي علينا إذاً تصوّر أساليب هذا التحول، ليس فقط على مستوى القيادة، بالرغم من أهميّتها، ولكن أيضًا وبشكل أساسي، على مستوى حياتنا اليوميّة. كيف سنغيّر في طرق تعليمنا؟ ماذا سوف نستهلك؟ كيف سنمارس واجباتنا المدنيّة بشكلٍ مختلف؟ كيف سنعدّل تعاملنا مع بعضنا البعض؟ ماذا ستكون ردّة فعلنا إذا اختارت ابنتنا الزواج من شاب من ديانة أخرى؟ كيف سنتعاطى مع الابن الذي يريد مواعدة صبي آخر؟ كيف سندرك مسؤوليّتنا إزاء الأطفال الذين يبيتون على الرصيف؟ بالإضافة إلى حالات كثيرة أخرى.

لديّ شعور بأنّ المجتمع الذي أظهر الكثير من العزيمة والصمود خلال السنوات الأخيرة يمكنه الإنتصار. أما التحدّي الأساسي فيكمن، اليوم، في معرفة كيفيّة توجيه هذه اللّحظة النادرة نحو مواطنيّة فعّالة وطويلة الأمد، يتحقّق من خلالها إنتصار الإنتفاضة.

مديرة برنامج العدالة الاجتماعية والمدينة في معهد عصام فارس للسياسات العامة في الجامعة الأميركية في بيروت

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم