السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

قَوسَان أدناهما أرضٌ

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
قَوسَان أدناهما أرضٌ
قَوسَان أدناهما أرضٌ
A+ A-

أردتكِ أن تكوني قَوسيْن منْ غرابةِ السِّرِّ مَعدَنَهُما، أفتحهما خَلَلَ هذه الوجوه الجامدة والضَّحكات الـمَحجوزة. تَمنَّيتُكِ فسحةَ انْدِهاشٍ، أشرَعُها وسطَ هذه الثَّخانة التي تَتَخَفَّى خَلف معاطف جلدٍ زائفٍ وأقمصة رَديئة، صُنعت في أغوار الصين. الرداءة، تَعرفين، مثلي، ثِقلَها وقَهرَها. وددتُ أن أمرَّ أمامَ بَيْدَرِها شامتًا، أن أكسِرها عابثًا، أن أضَعَها أمام وَجعِ أن تكونَ امرأةٌ لاجئةً. أردتُ أن أخونَ رَفاهَ المدن الكبرى وفخامَتَها، حين رأيتكِ دون مدينةٍ، دونَ أرضٍ، سوى ذِكرى الجذور البعيدة، التي تُحييها في أوراقِكِ البيضاء. "القلوبُ الكبرى لا تَخون". أضفتِ أنَّني إحداها. نعم. حَدسُكِ أطلَعَني شُعاعًا. لن أخونَكِ مع أنني لم أقض معكِ سوى دقائق، طيلة أربع وعشرين ساعةً. كانت تلكَ الدقائق القَصيرة نزهةً في الـمُفارقات والخَيبَة. ومِن وَميضها، استَقيْتُ ما يكفيني من حرِّ السؤال. تَهكَّمتُ من الرداءةِ ورَددتُ عليها قهرَهَا.

تحدّثنا عن عنصرية الناس هنا وهناكَ، عن الخِطابات الجارحة وعن مُعاملات الـمُديرين. "الكلُّ مديرٌ على طريقته. والكلُّ يَخونُ على طريقته، حتى هذه الزياتين التي تنقادُ لِجرَّافات المحتلّ ولا تصيح. لا تنقلبُ عليها. لا تنطلقُ شراراتِ لهبٍ وغَضَبٍ. كان العماءُ ضيفًا غير مُنتَظر. فاجأ أحاديثَنَا الـمُتقَطِّعة، على إيقاع التوجُّس والأمل. وافانا على حين غِرَّة. ما أقسى أن يَضيعَ الضوءُ من العيون، أن يتلاشى المشهد الملوَّن من أمامها، ألاَّتَبقى منه إلا خطوطٌ باهتةٌ، خَلْفَ الأسوار والأبصار. الأعمى مثل اللاجئ، كلاهما يَفقد البَصَر-الوطن. تطير منه صورُ الامتداد ويَظلُّ يَذرع الفراغ ويسبحُ على ضفافٍ جافّةٍ مالحة. ذَكَّرتِني ما كنتُ أخافُهُ منذُ سنَوات طفولتي. من بين الألعاب التي استأنستُ بها في صغري: أسير مغمضَ العينين، يَقودني أخي خلال شوارع البلدة، كما لو كنتُ مكفوفًا.

حدّثتِني عن والدتكِ وحقولِها وأشجار الزيتون وأوراق الزَّعتَر. خاننا الوقتُ الضيّق. أعْجَزتنا المسافات البعيدة أن نستنشق أريجَ البراري، إلا في ثنايا الكَلِم. سَلَّط علينا مُنظِّمو المؤتمر نظامًا صارمًا من الـنَّدوات. علينا أن نحضرها وأن نستمع إلى عشرات المداخلات عن الهُويّة والتراث. ضبط إيقاعَنا سائقُ الحافلة الذي لا ينتظر دقيقةً واحدةً بعد الموعد. منضبطٌ كَساعةٍ سويسرية، رَغم ضحكاتِه. ذكرتني صَفراويتها بلون الأقمصة المَغشوشَة. إنْ تأخرنا دقيقةً، تَرَكَنا في الفندق وسار في سَبيل حاله. يسرع بحافلته ببرودٍ، ونبقى بلا مُؤتَمراتٍ ولا طاولاتٍ مُستديرة، هذه التي جئنا من أجلها. يَذَرنا في ردهة الفندق نَذرع الفراغَ. نحاول الإمساك بالامتداد فلا نَقوى. يَطرقنا الغياب مثلَ العَماء، يأتي دون استئذانٍ، يسرق منا ألوانَ الطيف بلا رحمةٍ. نَعيش على تخوم الأشعة وفُقاعات الضياء. كالمحتلّ، يَمضي بجرّافاته ولا يبالي. يترك والدَتَكِ من غير زياتينها وبخورها، والعروسَ من غير حريرها. بَقينا نذرع البهوَ بعبثية وتوتّر. نريد أن نستغلَّ كلَّ ثانية فإذا بنا نضيع ساعاتٍ طويلة خلال هذا اليوم الـمُنفلتِ.

أردتُ هذيْن القوسين، اللذيْن انفتَحا دون سابق إضمارٍ، أن يكسرا الرتابة، رتابة مدينتي الكبيرة التي تملكُ أرضَها وتعيشُ في وَطنِها. لا أعرف حِسَّ اللجوء ولا حقيقتَه حينَ تؤوبين، أنتِ اللاجئة، إلى ذاتك العميقة، في جُنحِ ظلامٍ، وتواجهين ميراثَكِ وحيدةً، إلا من قصص الطفولة. أردتُ أن أعانقَ قطرةً من إكسير السعادة الموهوم، حُلمِ الشعراء وحَجَر الفلاسفة. وحُلمِكِ أنتِ حين تَستقلين الطائرة إلى بلدٍ المؤتَمَر بجواز سفرٍ فلسطينيّ أسودَ. لماذا اختاروا لونَ الموتِ؟ رأيتُ تعويذةَ والدتِكِ التي وَضعتِها على المشدِّ حتَّى تَحميكِ من شَياطين الإنس والجان. حاولتُ استكشافَ المسالك البريّة التي تؤدي إلى ما في قلمك حين يفاجئ الصفحات العذراء. لَستِ جنيَّةً ولا إنسية. أنتِ من كائنات الوَرَق. ولستُ شيطانًا، بل أنا راءٍ. لامستُ حرقَةً بين السطور ورأيتُ من خَلف العبارات. لاحقتُكِ في تَعاريج الحروف، تنثني مثلَ جسدك البديع. كما هو متوقعٌ، أضعنا كلَّ شيءٍ. لم نمسك ولو ذَرَّةَ رملٍ واحدة من تلك البِقاع المغصوبة وأغوارها الفَسيحَة. تِهنا بين الدَّرَجات والغُرَف ولم تَرسُ قواربُنا. أعلم أنّك مثلَ فصولِ روايتِك، تَفرِّين دون قرارٍ ولا خاتمة. كلُّ شيءٍ مفتوحٌ ومُغلق في آنٍ.

وَحدها القِطَطُ كانت سائبةً. تقفزُ في كل مكان وتطلع علينا من الدروبِ. كجُمَل سَردٍ أسطوري، تُفاجئنا مِن على السطوح وفوقَ الأشجار. تُطلّ من بين الطاولات وسيقان الكراسي. أنهرُها فلا تنتهي. أتخافينها لأنها تَظهر فجأةً، كلقاء غير متوَقَّعٍ؟ سببه الوحيد عناد سائق متحجِّر. سُخرية الأقدار رأيتُها: ترتبط المصائر بلحظة ارتخاء وقد تنكسر في لَحظة عنادٍ. يَتَحدَّثُ المؤتمرون عن التعايش والهويات المنفتحة والإرث الكونيّ لبني الإنسان. لستِ من بَني جِلدَتي، بل أنتِ نصٌّ عَنيدٌ، رأيتكِ مثلَ سائق الحافلة، مثلَ رواياتك التي نَسجتِها من تَرانيم الطفولة. كَم وددتُ الإصاخة إلى أهازيج والدتِكِ وهي تشدو من وراء الأسْيِجة. حتى أصداؤها صارت مسجونةً. خَذلها سائقُ الجرّافات، كان "يؤدي عمَلَه"، بدقَّةٍ وحشيَّة. لا يتوقف أمام شجرة لوزٍ ولا صبَّار. كسائق المؤتمرات: مَن يتخلَّف يُترك. ولا يني، مع ذلك، يُطلق صيغ المجاملة، من عطور العربية والأمازيغية. حتى المحتلّون، يتلون قَرار هَدم البيوت، بالعِبرية نكايةً في الضاد وفي حقولها البهيجة.

يَصمدُ قوامُكِ الطويل ويملأ البهوَ حين تطوفين بين الطاولات. حتى أنتِ تَذرعين الفراغ، تبحثين عن الصيغة المناسبة، تُهدين أوراقَكِ إلى أمّكِ الكفيفة. دمعتْ عيناكِ عند ذكرها، وكأنك تكفّرين عن خطأ هذه المؤتمرات الزائفة، مثل معاطف الجِلد والأقمصة المصنوعة في الصين. انكشفَ قميصُكِ عن صَدرِكِ. قَبْلَها، حَدَّثتِني عن أثمار الرُمّان الذي لم يكتَمل، مثل سهرتنا الحالمة. فإذا بي أبصرهُما ناهدَيْن، يَتَخَفيّان تحت مَشَدٍّ أسوَد. نَسيتِ غلقَ أزرار القميص. رأيتُ التميمَةَ. بلهجة دافئةٍ نَهرتِنـي: "نَسيتَ ما شاهَدتَ، عِدني أن تَنسى". كيف أنْسى؟ صدقًا، ما فكرتُ أبدًا في غزوة سخيفةٍ لجسدك الطامي. كانَ بحرًا وأرضًا، كما كانت الأغوارَ كلُّ كلمة نَطقتِ بها. كانت تُربتُها وسمرتُها وقدرتُها من صَميم الجُمَل، في ثنايا كلّ حرفٍ فاهت به الشفاه. مع ذلك، كنت أسترق النظر إلى شفتَيْك الحمراويْن: حينما تبتسمين أرى منهما بريقًا وفي العينيْن. مُنايَ أن يَظلَّ الضوء فيهما حتى يُبصِرا، ربما، عودةَ الأرض السليبة. وفي عينيَّ، حتى أراك، مرة ثانيةً، بعيدًا عن المؤتمرات والطاولات الـمستديرة. حاولتُ النفاذَ إلى داخل قلعتك الحصينة، إلى تلك "الخُويصة" التي سميتِها "هويّة"، في كلمتكِ، تلك التي لم أسْمَعها بسبب سائق الحافلة العنيد. ضبطوا موعدَيْن فقط لحركة الحافلة. مَن أخْطأهما تغيَّبَ. تخلفتُ عن أحَدِهما. هذه المرة، لا أريد أن أخطئَ بابكِ الـمُشرَعَ. لم تكن الأبواب تُشرع إلا للحظاتٍ مُستَرقَة، نَشتهيها ونلهث وراءَها مثل أولئك الأطفال الذين تُهددهم والدتُكِ بأبي كيس. قلتِ إنه يَلقَف الأطفال ويَختفي بهم. وأضفتِ: إنه يَلقَف أيضًا قصصَ الحب التي لا تَكتَمل. أتحتِ لي حرية مَحجوزةً، كتلك التي يعطيها الـمُحتلّ لضحاياه قبل أن يجرف بيوتَهم: "احملوا ما شِئتُم من الأغراض". يَنطقها بالعبرية. ما عساي أحمِلُ منكِ؟ بقيةَ حبات رملٍ من جَبل الهَيكل، البعيد مثل الوشم. كانتْ سخيفةً تلك المرأةُ التي تحمل ذراتٍ من شواطئ فلسطين وتَسكبها في مَدينتي الأوروبية. لن أخونَكِ، ولن أخونَ ذرَّات الرمل الذهبية، لأنها تحمل أهازيجَ أمِّكِ وهي تسبح، أثناء طفولتها البريئة، على تلك الشواطئ. لم يتطرَّق المؤتمرون إلى الشواطئ. ألقوا محاضراتٍ عن الهُوية. ما حَضرتُها. تخلَّفْتُ عمدًا عن الحافلة. بقيت أنتظرُكِ في بَهو الفُندق.

اقرأ للكاتب أيضاً: أكلّما طَمَى بحرُ الضاد؟

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم