الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"بيغوني" أو أولغا توكارتشوك

المصدر: "النهار"
عقل العويط
عقل العويط
"بيغوني" أو أولغا توكارتشوك
"بيغوني" أو أولغا توكارتشوك
A+ A-

أرغب في أنْ أسمّيها "بيغوني".

ما إنْ تناهى إلى مسامعي إسم هذه المجموعة السلافيّة الصغيرة التي عاشت سابقًا حياة الترحال، والتي ربّما تلفّ حقيقةَ وجودها المعلوماتُ المتضاربةُ والشكوكُ والأساطيرُ الكثيفة، حتّى قلتُ في نفسي إنّي أريد أنْ أسمّي الفائزة البولونيّة بنوبل الآداب عن العام 2018 باسم "بيغوني"، شغفًا بحياة الغجر القائمة على الترحال، وتكريمًا لفكرة التيه، والبحث عن الحقيقة في المجهول، وعدم القدرة على الاستكانة في مكانٍ ما.

إنّها أولغا توكارتشوك – "بيغوني" (بحسبي)، الروائية البولونية التي فازت أمس الخميس 10/10/2019 بجائزة نوبل للآداب عن عام 2018.

لا أعرف الكثير عن هذه المرأة الروائيّة. من واجبي الأدبيّ، والحال هذه، أنْ أتعرّف عليها قليلًا.

لهذا السبب بالذات، لن أكتب عن بيتر هاندكه النمسوي الذي فاز بالجائزة عن السنة 2019 هذه، والذي يعرفه كثيرون، هنا وفي العالم.

لكنّي أتدارك سريعًا أيضًا، لأُوضح أنّي لن أكتب مقالًا نقديًّا وتحليليًّا عن أدب أولغا توكارتشوك، زاعمًا أنّي رجلٌ فهيمٌ ومجتهدٌ، أو كاتبٌ "مثقّفٌ"، ولن ألاحق ما يُكتَب الآن عنها، لاهثًا وراء المعلومات الغفيرة والخصائص الروائيّة التي تميّز كتاباتها، وقد باتت مواقع "غوغل" والصحف العالميّة تغصّ بها (ما أروع الصحف "الورقيّة" على الإطلاق!).

أكثر ما استهواني في نبذة حياتها الشخصيّة والأدبيّة، أنّها ألقت الضوء على "بيغوني"، تلك الجماعة الغجريّة (المنقرضة؟!)، وأنْها ذهبت عميقًا في مساءلة أحوال النفس البشريّة المترحّلة والتائهة، هي التي أمضت الكثير من أوقاتها في دراسة علم النفس.

لذا لن أكتب نبذةً عن حياتها، ولن أستفيض في الحديث عن الميزات التي حملت الأكاديميّة الأسوجيّة على منحها الجائزة عن السنة الفائتة. بل سأكتب عن كونها هذه الـ"بيغوني" غير القابلة روحُها بالاستقرار والمراوحة والدوران في الحلقة المفرغة، وذلك من خلال الإيماء إلى شغف هذه المرأة الحرّة، المشاكِسة، المغامِرة، التي تبحث بلا هوادة، عن كيفيّات مراكمة الشبق المعرفيّ بالمجهول، ومراودة المناطق الغائرة من لاوعي النفس ولاوعي الوجود، وهو الشبق اللامتناهي، غير القابل للإنجاز والاكتمال أو الانتشاء.

الترحال هو إذًا، المفتاح الذي يهمّني أنْ أستخدمه قليلًا، للتعرّف على هذه الكاتبة التي تلحّ كتبٌ لها على مسألة التيه وعدم الاستقرار ("البدائيّة وأوقاتٌ أخرى"، "رحلة كتاب الناس"، "الترحال"...).

إنّه التيه الترحاليّ باعتباره استكشافًا، لا للأمكنة فحسب (هذا بديهيٌّ جدًّا وطبيعيٌّ جدًّا في عمليّة الترحال)، بل خصوصًا للذات المجهولة، التي قد تعثر على مرايا وصفحاتٍ من مطموراتها ومخبوءاتها السلاليّة (!) من خلال الاحتكاك بالأمكنة اللّامتوقَّعة وبالناس اللّامتوقَّعين.

أتوقّف قليلًا أمام رأيٍ لها، هو بمثابة صفعةٍ مدويّة للعقل المستكين: "عندما نتوقّف عن الترحال نصبح أصنامًا. مَن يتوقّف يصبح مثل حشرةٍ مثبتة بدبّوس، يخترق قلبه مسمارٌ خشبيّ، تُثقَب قدماه ويداه ويتمّ ربطه بالسقف وبعتبة البيت. لذلك يضمر الطغاة بكلّ أصنافهم، وعَبَدة الجحيم، كرهًا عميقا للبدو والرحّل، وهذا هو سبب اضطهادهم للغجر. يرغموننا على الإقامة واتّخاذ مكانٍ ثابتٍ لنا كي نقضي فيه أحكام سجننا".

وما دمتُ لا أزعم أيّ معرفةٍ بهذه المرأة، فإنّي أكتفي باستشهاداتٍ لها، ربّما تكون خير سبيلٍ لتعرّف الناس المتواضعين على هذه السيّدة التي تصغرني بعشر سنين.

من هذه الاستشهادات:

- العالم سجنٌ مليءٌ بالعذابات، منظَّم على نحوٍ يُجبر مَن يريد أن يحيا، على ايذاء الآخرين.

- كلُّ شيءٍ حولنا كأنّه يهدف الى منعنا من فهم ما نراه: كي تهرب منّا الحقيقة، المخبّأة تحت كلماتٍ فارغة.

- العالم لم يُخلَق من أجل الانسان، ولا خصوصًا من أجل راحته ومتعته.

- مَن قال إنّ علينا أن نكون "ذوي إفادة"؟ مَن قسم العالم بين المفيدين وغير المفيدين، وبأيِّ حقّ؟

- الريح هي نظرة الأموات إذ يتفرّجون على الأحياء من حيث هم.

- غالبًا ما نضطرّ في حياتنا إلى المواجهة مع ما اخترعناه بأنفسنا.

سيّدتي الفائزة البولونيّة بنوبل 2018،

أختم بهذه العبارة لكِ، لعلّها تفيدنا نحن أيضًا (هنا والآن) في مباشرة القدرة على مناقشة صفحاتنا السوداء. وما أكثر هذه الصفحات:

"لقد كنت ساذجةً جدًّا. ظننتُ أنّنا بتنا قادرين على مناقشة الصفحات السوداء في تاريخنا".

تحيّة إلى هذه الـ"بيغوني" أولغا توكارتشوك، الباحثة عن الحقيقة، عن الصدق، حتّى لو اقتضى الأمر منها أنْ تفتح معركةً طويلة الأمد، لا هوادة فيها، مع ذاتها. ولِمَ لا: ضدّ ذاتها!

[email protected]

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم