الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

شيزوفرينيا

عواطف محجوب
شيزوفرينيا
شيزوفرينيا
A+ A-

لن يعود كما كان أبداً، وهذه الفوضى اللّعينة تحتلّ عقله، قلبت كيانه وكلّ حياته. فكّر وهو جالس في المدرج ينصت باهتمام إلى المحاضرة حول آخر التّطورات في برمجيات الأجهزة الذّكيّة. تلاشى صوت الأستاذ رويدا رويدا ونقص إدراكه لما يقال. ملأه الخواء لدقائق، ثم احتلّ رأسه وجه حمار كبير طويل الآذان أصفر الأسنان واسع الفكّين ينظر إليه نظرات غريبة. حملق فيه طويلا وعلى حين غرّة نهق بجنون في عمق عقله. زلزل جمجمته ورجّ كيانه، ارتعد الطّالب وتفاجأ من هول وقع النّهيق فأغمي عليه وانهار متكوّما في مقعده.

النهيق لا ينتهي، لا يغادر رأسه، يلازمه ويتسبّب في أرقه. لا يكاد ينام إلا ليصحو فزعا، يرى حوائط البيت تنهار بسرعة جنونية، ويتداعى كلّ ما فيه إلى هوّة سحيقة ويبقى هو معلّقا في أعالي السّماء. ينقطع نفسه ويعلو وجيب قلبه حتى يكاد ينفجر. أصبحت أحواله متردّية و تغيّرت سحنته إلى الأسوأ، تحوّل إلى كائن شاحب بعيون جاحظة حمراء زائغة نظراتها من التعب، تصيبه نوبات خوف وصرع أغلب الوقت، وكل شيء أمامه يتحرك، يراه يدور داخل رأسه بلا نهاية. وعقله لا يتوقف كقلب ساعة لا يملّ، تتوالد الأفكار فيه ومنه كخيوط متشابكة انفلتت من كرتها على غير هدى. استبدّت به آلام معدته وتفاقم صداعه. وتخنقه الأمكنة رغم اتّساعها تنطبق عليه فيضيق صدره وينخرط في نوبة صراخ تنتهي بانهياره.

كان على شفا الجنون مع اشتداد المرض...

جلس يشاهد فيلما سينمائيا، فتاة تنام في رقعة نور وأضواء حمراء مسلّطة عليها عدا ذلك كل شيء مظلم، أحس بثقل يجثم على صدره وهو يتابع المشهد بتوجّس. علت تمتمات غير مفهومة يرددها صدى المكان كتعويذة سحر. وبدأت الفتاة ترتفع في الهواء رويدا رويدا وعلت عن سطح المكان. حتى إذا توقّف الكلام المبهم وعمّ السّكون هوت بعنف هامدة. شُجّ رأسها وسالت الدّماء من أنفها وفمها. قفز مرتعبا كمن أصابه مسّ. استبدّ به الهلع وثار يركل الأثاث من حوله صائحا: "ابتعدوا ابتعدوا لا أريد الذّهاب!". و أسرع إلى غرفته، رمى كلّ الأغطية أرضا ومزّق دفاتر دراسته، كسر كل ّالتّحف والمرآة وخلع أبواب خزانة ملابسه حتى كَلّ من التّعب. وجرح ذراعه متلذّذا بشفرة حلاقة وهو يردّد: "سأقف على حافة الهاوية وأرمي بأمعائي وأطرافي، دعوني...أكرهكم! ". ثم تبوّل على فراشه المغطّى بدمه وانهار.

كان آخر ما يذكره صوت صافرة سيّارة الإسعاف كالمعول يحفر دماغه دون رحمة ووجه المسعف يلمحه من خلف الضباب يتمطّط ثم يلتصق بوجهه ويكتم أنفاسه ليسقط في هاوية مظلمة. رأى نفسه تائها في الصّحراء عطشا مكدودا يشير إلى طيف بعيد بيده أنّه يريد ماء، وبدأ يستفيق. ميّز رائحة المستشفى، مزيج من نفحات الأدوية وحرارة الأجهزة. وحركة تزداد بالقرب منه، أخيرا فتح عينيه بعقل مجهد وجسم منهك. اقتربت منه والدته مستبشرة لكنّه انكفأ على نفسه وتغطّى باللّحاف مردّدا: "سمّمت كلبي وخبّأت الوحوش في خزانة المطبخ وحاولت إطعامي الدّود ليشرب دمّي، وأوصيت أساتذتي بالتخلّص مني حتى لا أكل طعام العصفور مجدداً... هييييه هيّا جِدي عيادة أخرى لك!".

عادت لتطمئن عليه استقبلها وابتسامة عريضة تزيّن وجهه، يرتدي مئزرا أبيض اللّون ونظارات طبيّة، شعره مصفّف بعناية. حاولت معانقته متسائلة عن سرّ تغيره لكنّه صافحها ببرود كأنّه لا يعرفها ثم انتحى جالسا خلف الطّاولة الصّغيرة الموجودة بغرفته وطلب منها الاستلقاء على السّرير وقال: "آسف لطردك في الجلسة الصباحية. أهلا بك مجددا في عيادة فرويد. ما رأيك لو نعيد العلاج من البداية؟ أخبريني كيف بدأ المرض معك هل أغمي عليك أم الخوف داهمك؟". صفّقت الأمّ وحوقلت وهي ترى المرض قد عصف بولدها حتى خيّل إليه أنه الطبيب المداوي. خبط على الطّاولة بقوّة أفزعتها، وحملق فيها بعينين متّسعتين منهكتين. وتوقّعت نوبة غضب وهلع بينما قهقه عاليا وبدأ يقفز بلا هوادة كأنّه قرد وبين الفينة والأخرى يرتطم بأثاث الغرفة والحائط ولا يهتمّ لما يصيبه جرّاء ذلك، وأمّه تحاول الإمساك به وتهدئته وهي تولول: "ولدي هبل! ناري عليه! تمكّن بيه جنّ أسود!". حقنته الممرّضة فارتخى واحتملوه إلى السّرير، دثّرته الأمّ جيدا وأسرعت تغادر المكان.

جلست أمام العرّاف بخشوع يشوبه قلق. وسردت على مسامعه القصّة و أطنبت في وصف حالة ابنها السيّئة، وهي ترمقه تستشفّ ردّة فعله جرّاء ما حكته، لكنّ العرّاف ظلّ ساكنا كالجبل. ناولها صرّة من الحشائش أمرها بحرقها بعد خلطها بملح خشن في المكان الذّي يوجد به ولدها. وفي غفلة من طاقم المستشفى أشعلت فحما سريع الالتهاب ورمت فيه الخليط وهي تتمتم بسورة الفلق. تصاعد الدّخان كثيفا في الغرفة خانقا أنفاسه فسالت دموعه وصاح من بين سعاله: "أتركوني لن أذهب معكم! دعوا أمعائي سأرميها في الهاوية.أنا حرّ!". بينما عمّت الفوضى كامل المستشفى وصفّارات الإنذار عن الحرائق تئزّ بلا انقطاع.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم