السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

كيف للأشياء أن تتغيّر فجأة ثم تركض مُحدِثةً قعقعة في ذهني؟

هدى الهرمي- تونس
كيف للأشياء أن تتغيّر فجأة ثم تركض مُحدِثةً قعقعة في ذهني؟
كيف للأشياء أن تتغيّر فجأة ثم تركض مُحدِثةً قعقعة في ذهني؟
A+ A-

"دولتشي" حتى لحظتي هذه، ما زلتُ التقط بحاسّة شم فريدة تلك الرائحة الى درجة أنّها كادت تصيبني بحالة من الشلل والاغماء. إنّه شيء حقيقي فعلاً، ظلّ ينبض مثل كائن حيّ. لقد جافاني النوم وأنا مستلقية في سريري، بينما تتساقط التفاصيل في عقلي وتنهر سبات الليل من القفز فوقي. كيفما شاءت المصادفة، لقد أصابني هلع استثنائي، شهقة موازية لذلك الألم الذي اخترق ذراعي الأيمن حين اصطدمت بكتفه، وأنا أهرول في رواق الدخول الى المطار الدولي. هذا الفضاء المختلط بجموح الأجساد الوافدة والمغادرة لعوالم شتّى، فلا يفصلني عن بداية رحلتي القصيرة الى الدار البيضاء، الا بعض الوقت.

كنتُ كمن يلاحق ضالته، ويبتكر له متعة طيّعة لاهفة نحو أرق لذيذ، وأنا التي تعوّدت على التعامل بحذر مع كل مُنبّهات الحواس وتلك الإعلانات المتراكمة لوسائل التسلية المؤدية الى تخمة المشاعر. ما كان ينبغي أن أكون يقظة في غمار هذه الحمّى وأنا أنضج عرقاً وأشد شعري للوراء، وما كان يلزمني أن استنشق أثره وهو يتطاير فوق قفا عنقه. لطالما كان العطر هوسي الدائم، تلك التركيبة السحرية الأكثر فاعلية في خذر اللحظة، وخز ينعش مساماتي الساكنة، يداعبها بغواية طافحة لتنحاز جهة النشوة. الآن، تحوّل أشعاراً عنيدة، وبوسعه ان يكون بالقدر نفسه من الغواية كنهر سريع الجريان في أرض المحرقة. كنت أحدّق في ظهره، لم اخاطبه بأي كلمة، منتظرة أن يُبطىء وتيرة خطواته السريعة، فهو بالكاد يلتفت هنا وهناك، حتى خلتُ أنّني لست متأكدة من أنّه الشخص الذي اصطدم بي.

إنّه يمضي كأنّ لا شيء يعوق تحركاته على رغم وتيرة الازدحام، منطلقا باندفاع الى وجهته المحتومة. لقد لاحظت ذلك جيداً، ربما كان يجدر بي أن أميل رأسي كي اكتشف أكثر خطوط وجهه الخارجية وأخمن ماذا تعني؟ كان الوجع والإثارة قد أقاما إقامة فجائية في معقل اللحظة، وتلك اللسعة تتحرّك في جسدي وتستقرّ كصدمة تشعّ على وجهي. كيف للأشياء كلها ان تتغير فجأة ومن ثم تركض محدثةً قعقعة في ذهني؟ دوّختني التساؤلات، كان بمستطاعي أصلاً ألا اهتم وأكترث به، لكن عطره أغار عليّ، وأنا مجدولة في كلّ تفاصيله، فلم يكن بوسعي التوقّف عن ذلك. إنّه لا يودع أحدهم ولا يرافقه شخص ما، لم يعانق أمّا أو حبيبة، ولم تفلت من تقاسيم وجهه بسمة أو دمعة. كان وحيداً وسط الحشد، كأنه لم يأخذ مبادرة الكلام منذ فترة. فقط كان يُحدّثني بلغة ما، حين التقط وجهي بنظرة منطفئة وهو بالكاد يصل الى بوابة العبور النهائي ويغادر كمستقبل هارب. لم أفهم ماذا يعني ان ألوّح اليه بيدي كانني أودعه. كرّرت ذلك حتى أهب نفسي شيئا من الغبطة ربما؟ لا أدري.

في تلك اللحظة الفارقة رغبت في عناقه. بعدها، له أن يجد رحلة جوّية أخرى. لكن العالم تهاوى من حولي حين تلاشى وهو يندسّ وسط المسافرين. تساءلتُ وأنفاسي تتصاعد وانا محتقنة بالخيبة: هل فقدته في نفس لحظة العثور عليه؟ انتثرت دمائي في روحي كأن أحدهم يمزقها إرباً إرباً. فجأة اقتادني عطره المسيطر على طول طريق مُلتف ومنفصل عن كلّ هذا الفضاء الصاخب. صرتُ لا أجرؤ على الحركة كي افيض بشعور ما، ولا يمكنني ان اقتفي خطواته وأتأمل وجهه وهو يبادلني النظر من دون أن تطرف عيناه. تخيّلت إنّه يشبه "دومينيكو ستيفانو" مبتكر عطر "دولتشي" و انا اخفض وجهي وأستنشق الرائحة التي لا تكفّ عن اثارتي بقوّة. كيف يمكنني ان أنساها؟ أدرك أنّها تُجسّد رحلتي العاطفية والجوهرية، ثورة تلك الزهرة الإفريقية "الاماريليس الأبيض" وزيت زهر النارج، وزهر البابايا، ليتكامل مزيج جريء من زنبق الماء ويهبني ذروة التجلّي في أرض ما، كأنما انسكب العطر على قدمي وتحت اخمصَي قدميّ المحترقين. حتى رأسي صار يؤلمني ألما جنونيّاً. ينبغي أن أستوعب تلك المعلومات، كما لو أنّي أحفظ عن ظهر قلب درس كيمياء بما اختزنته من عبق وصدمة أو ارتداد. لم استوعب ما يدور في رأسي حينئذ، وما يحصل معي، غير أنّه من دأبي أن تحصل معي أشياء غير مترابطة منطقياً. ربما كنت متأثرة بالأفلام السينمائية الهندية! لكني لم استطع أن أتمالك نفسي. كانت حشود الملأ توتّر اعصابي. سمعت سيدة تطلب مني أن اتقدّم في الصفّ وعلى رغم ذلك وددتُ لو أصرخ: اني انتظرك، لن أتحرك من هنا حتى نلتقي! دُهشت لدى رؤيتي موظف الجوازات قبالتي وأنا في أول الطابور. رفع حاجبا وابتسم وهو يقول: جواز سفرك يا آنسة!

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم