الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"قلقاس بن فرناس" لعمرو البدالي: بين المستقبل والماضي السحيق، آدم يبحث عن ذاته

مارلين سعاده
"قلقاس بن فرناس" لعمرو البدالي: بين المستقبل والماضي السحيق، آدم يبحث عن ذاته
"قلقاس بن فرناس" لعمرو البدالي: بين المستقبل والماضي السحيق، آدم يبحث عن ذاته
A+ A-

صدرj حديثًا عن دار غراب للنشر والتوزيع، القاهرة، رواية لعمرو البدالي، بعنوان "قلقاس بن فرناس". الكاتب طبيب أسنان وروائي، من مواليد الإسكندريّة 1982، حصل على جائزة أحسن سيناريو في مسابقة القوّات المسلّحة للأفلام الروائيّة الطويلة. له عدد من الأعمال التلفزيونيّة منها: "راجل وست ستات"... ولديه عدد من الروايات منها "قلقاس بن فرناس"، التي يشي عنوانها غير المألوف بمضمونها، إذ فيه من الغرابة ما يوحي بالهَزْل لا بالجِدّ، مع أنّ الكاتب يفتتح الرواية بنَصٍّ يُنذر بمستقبل كارثيّ لمصر وشعبها، مشيرًا الى مصدر الاقتباس: متون هرمس، القرن الثاني الميلادي؛ يُتبعه بشبه مقدّمة، تتضمّن صرخة موجهة الى "آدم"، يدعوه فيها ليستيقظَ وينتصر في حربه على الشيطان. من هو آدم هذا؟ أهو بطل الرواية، أم المقصود به كلّ بشريّ، كوننا جميعًا أبناء آدم؟

يضعنا البدالي في روايته هذه، ضمن إطار زمنيّ مختلف عن زماننا، فأحداث الرواية تاريخها لم يأتِ بعد، إذ نسبها الى المستقبل. ساحتها الأساسيّة القاهرة – مصر، في السنة 2050.

منذ البداية تبدو أجواء الرواية مشحونة بالعنف والدماء والطغيان، نستعيد، ونحن نتابعها، أجواء رواية "1984" لجورج أورويل، وكأنّها محاكاة لها؛ أهو توارد في الخواطر ومجرّد صدفة، أم أنّ عمرو البدالي تأثّر أورويل، وخرج بجديده انطلاقًا من روايته تلك؟

فالأحداث في الروايتين تتشابه، أكان من حيث الزمان: المستقبل؛ أو من حيث الواقع السياسي: الديكتاتوريّة والاستبداد، والظلم المفروض على الشعب من قِبَل السلطة الحاكمة، والثورة المقموعة باستمرار، والسوداويّة، والتخلّف، والضيق الاقتصادي... علمًا أن المستقبل عادة يوحي بالتطوّر والازدهار؛ ويتأكّد لنا هذا التطابق أو التماثل في القسم الأخير من الرواية؛ فكما طغت شخصيّة "الأخ الكبير" التي تمثّل الحزب الحاكم في رواية أورويل، نقع عند البدالي على شخصيّة "المحبوب الأعظم"، "رئيس وزراء إسرائيل الكبرى العظيم"! (ص 241)

ولكنّ تطوّر الأحداث في رواية البدالي يبدو أكثر غرابة، ويجنح نحو الخيال بشكل كبير. ففي حين يلتزم أورويل بالزمن الذي اختاره لروايته وبتسلسل أحداثها المنطقيّ، نجد البدالي يطير بأبطال روايته صعودًا نزولًا عبر الزمن، من دون رابط ظاهر لما يجري من أحداث، ولكنّه لا يلبث أن يجمعها بشكل غير متوقّع، محاكيًا المشاهد السينمائيّة الضخمة، مع حبكة محكمة، يحمّلها معانيَ عميقة، انطلق منها في بداية الرواية، وأنهاها بها.

فالرواية تتضمّن رسائل، يوجّهها الكاتب على لسان شخصيّاتها، لينقلَ من خلالها وجع الناس المغلوبين على أمرهم، في كلّ عصر؛ وربّما يريد، بالأخصّ، أن يشيرَ الى معاناة معاصريه في ظلّ الواقع الذي عاشوه لزمن طويل، فالأماكن والأحداث تتشابه:

"امتزجت صرخاتي بهتافات الآلاف من قاطني الميدان الباحثين عن العدل سُدى:

- عيش، حرية، عدالة اجتماعيّة." (ص 16)

آدم يروي عودة عمه العالِم المغيَّب إبراهيم قلقاس

يأخذ الراوي شخصيّة آدم فؤاد قلقاس الصبي الذي يَتَّمه الواقع المرير، فربّاه عمّه ابراهيم قلقاس. ويخبرنا بلمحة سريعة عن عمه العالِم، الذي "قضى عمره هائمًا بين دروب التاريخ والتجارب العلميّة لأسلافه"، والذي "سيطرت على عقله فكرة واحدة... هذا الكون الذي نعيش على أرضه داخل مجرّة درب التبّانة، أهو الوحيد في هذا العالم المجهول؟" (ص 19).

كما يخبرنا عمّا كان يرويه له من روايات خرافيّة... ثمّ يعلن عن اختفاء هذا العم بشكل غامض، بعدما ترك له رسالة اعتذار ووداع ومعها مبلغ ضخم من المال، لم يعهد أنّ عمه يملك ما يوازيه. "رسالة غامضة من عم وحيد كانت كلَّ سندي بالحياة... ومال مريب، فلم يملك عمي مالًا وفيرًا كهذا طيلة حياتي..." (ص 18).

جماليّة السرد

لا يلبث الكاتب أن ينقلنا الى العالم الذي رسمه لنا بخياله اللامحدود. نقع في الرواية على عدد كبير من الشخصيّات، لكلٍّ منها دورُها ودلالاتها. منها عزّام عزّام صديق إبراهيم قلقاس ومساعده الوحيد (ص 20)، ورضوى شاهين حبيبته، وهي ابنة رئيس وزراء مستقيل (ص 25). إلّا أنّ الحضور الأنثوي يظهر عرضًا في الرواية، من حين لآخر، بشبه لمحات، ولكن بوصف دقيق ومثير، كما لإضافة جوٍّ من الحميميّة، وقتل الرتابة، التي قد يشعر بها القارئ خلال سرد الوقائع.

نلاحظ كيف يبني البدالي أحداث الرواية تدريجيًّا، بشكل يخدم النمط التصاعدي للأحداث، بحيث تتحوّل الى عنصر جماليّ عند مطابقتها مع ما يُحيل إليها، من جديد، من أحداث لم تكن متوقّعة؛ كالرجل والقرد اللذين لا يفارقان المشهد مع أغنيتهما: "الليل الليل الليل... يا ميمون". (ص 36)، تقابلهما صرخة الثوار: "يسقط يسقط حكم العسكر"... إنّ في استخدامه هذا، إضافة الى جماليّة العرض والربط، دلالة على الرسالة المقصود توجيهُها، وأهميّتِها. يؤكّد ذلك، إصراره على افتتاح أجزاء وفصول الكتاب بشواهدَ استقاها من الأسفار والكتب المقدسة: الإنجيل والقرآن. (ص 37 - 38)

من جملة ما نقع عليه خلال السرد، تساؤلاتٍ بلا حدود حول تدخّل الشيطان في حياة آدم، ومدى سيطرته عليها. حتى ينتهي الى التأكيد أنه لو خرج الشيطان من حياة الإنسان لا يمكن للإنسان الشيطان أن يتوب: "فشياطين الإنس أشدّ خبثًا وشرًّا من الشيطان الأكبر". (ص 39)

عودة ابرهيم قلقاس والانتقال عبر الزمن

بعد بناء أرضيّة الرواية، وتحديد أطرها الجغرافيّة، يظهر إبراهيم قلقاس الذي اختفى بشكل غامض لمدة طويلة من الزمن، وبعودته تتّسع رقعة البناء السردي بشكل تصاعدي، ومغرِق في الزمن في آن، كأنّه يُلبس بناءَه هندسة تاريخيّة لا تشبه الزمن الأساسيّ للرواية. فقد عاد قلقاس وفي جعبته مشروع يقضي بإعادة الزمن الى الوراء، أو الانتقال عبر الزمن، بهدف تغيير مجرى الأحداث، وتلافي الكوارث والخسائر التي نتجت عنها، مثل: "سقوط برجَي التجارة العالمي (كذا) بأميركا.. حرب العراق.. قتل القذافي.. قتل عمر سليمان.. تنحي مبارك عن الحكم.." (ص 52).

وقد اختار للقيام بمهمّة الإنقاذ هذه شخصيّات امتازت بتاريخ فضائحي؛ مع ذلك دُعوا الى اجتماع في القصر الرئاسي، للقاء رئيس الجمهورية نوح سقراط شخصيًّا، وهم: "الممثل الشهير أنور أبو النجا، صاحب قضيّة الشذوذ الجنسي المشهور... والراقصة دندشة، صاحبة المقطع الجنسي المسرّب بأحد أهم قضايا الفساد الحديثة... عمرو حليم مذيع الدولة الأول.. هكذا أطلق عليه عوام الشعب.. وله العديد من الآراء المتضاربة... وبجواره مجدي فلفل، مطرب المهرجانات الأول، بعدما نال شهرة واسعة... جعلته يتربع على عرش تلك الأغاني الهابطة." وكان آدم الذي يسرد لنا أحداث الرواية، من بين المدعوّين، وفوجئ هناك بلقاء عمّه إبراهيم قلقاس بعد غيابه المفاجئ والغامض. (ص61)

في هذا الاجتماع أعلن إبراهيم قلقاس عن العمليّة السريّة صقر، التي تقضي بالعودة الى السنة 1952 (ص 65)، والقبض على الضبّاط الثوار الذين باتت أسماؤهم معروفة لدى القيادة، و"اختطاف المدعو حسن البنا، المؤسّس الأوّل لجماعة الإخوان المسلمين طفلًا ابن ست سنوات" (ص 72). وهنا يكشف عن سبب استخدام الفنّاين الذين دُعوا الى الاجتماع، وذلك لتوجيه أفكار الناس نحو الفن وإبعادهم عن التطرّف الدينيّ، أو الانضمام الى أيّة جماعة دينيّة. ويعلن عمّا نواه من تحويل الرئيسَيْن جمال عبد الناصر وأنور السادات الى "مواطنَين عاديَّين كباقي الشعب"، وإلغاء كلّ ما قد يسمح لهما أن يصبحا رئيسَين. كما يقترح اعتقال حسن البنّا "مدى الحياة، حتى يشيخ ويموت خلف القضبان!" (ص 73-74)

بين الوعي الديني الوسطي والعلمانيّة ودهس الثوّار تبدأ الرحلة

لا تخفى على القارئ محاولة الكاتب، على لسان رئيس الجمهوريّة نوح سقراط، الذي هو أيضًا رئيس الرحلة في الرواية، توجيه رسائل حول رؤيته للدين، معلنًا أنّه مع "الوعي الديني الوسطي... والبعد عن الأساطير والوعظ الحقيقي وإعمال العقل في أمور الدين". (ص 74)

فيردّ عيسى ممتاز مستغربا: "ألم تقل إنّك تريدها علمانيّة عسكريّة؟

يجيبه نوح: "الدين الصحيح بالنسبة لي هو قمّة العلمانيّة... لو أنّ شيوخ بلدنا كانوا بنفس عقليتك المستنيرة لما استطاعت خفافيش الظلام السيطرة على القلوب والأفئدة بكل سهولة.." (ص 75)

أيضًا ينقل لنا الكاتب شيئًا من تساؤلاته حول عبثيّة الوجود ولا عقلانيّته، في الحوار الذي يجري بين بطل الرواية وعمّه قلقاس، من خلال صرخته المدوّية عند طلب قلقاس منه دهس الثوار، قائلا: "ما ذنب هؤلاء ليموتوا؟... لا أستطيع دهسهم.. سأتوقّف!" فيأتيه الردّ أكثر حدّة وأبعد وقعًا: "لا.. إيّاك.. لن يغفر لك التاريخ ضعفك! لا تتوقّف." (ص 80)

وفي هذا يريد أن يُظهر لنا صورة حقيقيّة للواقع لذي نعيش فيه، حيث البقاء للأقوى، أمّا الضعفاء فلا مكان لهم، ويتحوّلون الى مجرمين ومذنبين في ذاكرة التاريخ بوجهَيه: الغابر الذي انقضى، والحاضر الذي ينتظر غده ومن سيكتبه.

في خضمّ المشهد الدمويّ تطلّ الشابّة فهدة لتقدم لهم العصير، فنقلنا البدالي في لمحة عين الى مشهد إغراء وفتنة غير متوقَّع. كأنّه يطوي كتابًا ويفتح آخر على عالم مختلف، لا يشبه في شيء العالم الذي كنّا فيه قبل أن تصل الشابة! (ص 82) ثم يظهر "إسماعيل شمروخ رئيس النادي الشهير"، الذي تقتصر مَهمّته على "إلهاء الناس بالخلافات الكرويّة" بين فريقن رياضيَّين"... (ص 86).

السفر عبر الزمن السّحيق

في أوّل محطّة لـ"فريق الإنقاذ"، يُدخلنا السرد عالمًا شبيهًا بأقاصيص المجلّات المصوّرة التي كنّا نتابعها في زمن المراهقة، والتي تروي أمورًا عجيبة تمزج بين الحاضر والماضي السحيق، في سفرة عبر الزمن، ترمي بأبطالها في أماكن غير متوقّعة لأزمنة لم يختاروها، ولم يتصوّروا أنّهم سيصلون إليها، توصلهم غالبًا الى عالم الديناصورات في وسط الغابات العملاقة، حتى نكاد ننسى من أين بدأنا وما الذي أوصلنا الى هذا المكان، وندهش لهذا الاختلاف في المشاهد، وهذا الدمج بين العصر الحجريّ وعصر غزو الفضاء.

كان المكان التالي الذي حلّوا فيه مخالفًا لهدفهم وتوقّعاتهم، فقد وجدوا أنفسهم في مدينة "سدوم" في محيط البحر الميت في الأردن العامرة بالشاذّين جنسيًّا. (ص 113) هنا يتحوّل المشهد الى كوميديّ، حين يُدرك ركّاب الطائرة أنّهم وقعوا بين أيدي شعب سدوم أبناء لوط... وكعادته عند ذكر الأمكنة، يقوم البدالي بنقل نبذة عن المدينة: موقعها، المدن المحيطة بها، واقعها التاريخي... (ص 122) بحيث يضفي شيًئا من الدقّة والعقلانيّة على ما يقدّمه لنا خياله من أخبار غير واقعيّة وغير ممكنة الحصول، ولكنّها تنطوي على رسالة إنسانيّة يريد أن يوصلها.

من عمليّة صقر الى عمليّة نسر محاولة إنقاذ للبشريّة

مع تطور الأحداث نلاحظ اختلافًا في الأهداف، فبعد أن كان الهدف إنقاذ مصر وشعبها، تحوّل، مع اختلاف العمليّة العسكريّة العابرة للزمن، من عمليّة صقر الى عمليّة نسر، وأصبح الهدف منها أكثر شموليّة، ويتخطّى إنقاذ الحاضر إلى عمليّة إنقاذ للبشريّة عبر التاريخ، ولسكّان سدوم وعمورة تحديدًا، وذلك بمحاولة عزّام عزّام - الذي هو واحد من "فريق الإنقاذ"- تغيير فكر شعب المدينتين لينجوا من العقاب.

وهنا نقع على اختلاف في الرأي بين الشيخ عيسى ممتاز وعزّام عزّام، فالشيخ عيسى واثق من أنّ القدَر لا يتغيّر، وأنّه ليس بالتالي في مقدورهم تغيير ما كتبه الله على هذا الشعب. بالأخصّ أنّه يعتبر أنّ "طريق الصلاح موجع والنفس تهوى الفجور". لذلك هو يرى أن سعي عزّام عزّام لإنقاذ شعب سدوم وعمورة لن ينجح أبدًا. هنا يتدخّل آدم معترضًا على موقف رجال الدين، الذين يرون الشرور في كلّ مكان ويكتفون بالصلاة، من دون أن يقوموا بأيّ تحرّك لإنقاذ الناس، مقنعين أنفسهم أنّ ما يجري هو إرادة الله. وبذلك حاول الكاتب أن ينقل وجهة نظره حول موقف رجال الدين السلبي، وغير الفاعل، ممّا يحصل في عالمنا. فصراع الذات الإنسانيّة بين التمتّع باللذّات واتّباع التعاليم الدينيّة، يَظهر واضحًا في الرواية. (ص 185)

أمّا هو فيرى الله بشكل مختلف: "قلتها ناظرًا للسماء، باحثًا عن أحضان الله الافتراضيّة لأتدثّر بها.. ليتني أحضرت معي مصحفًا صغيرًا لأقرأ فيه الآن.. كم أشتاق لذلك." (ص 183)

نلاحظ تركيزه، في أكثر من موضع، على الصلاة، فيجعلها ملجأه وخلاصه الوحيد، وكأنّه بذلك يؤكّد للقارئ مدى أهمّيتها ودورها الشافي والمنقذ في حياة الإنسان، فبعد ندائه الى نوح لينقذه "مُدّ يديك لتحميني كما سيحميك الله من طوفانه العظيم"، نسمعه يتوجّه الى خالقه: "ياااااااا رب. كن بجانبي في محنتي.. أنقذ إنسانًا ضعيفًا. بهذه اللحظات ولأوّل مرة بحياتي شعرت بدفء الله.. فالله دفء لا يشعر به سوى المحتاجين إليه.. الله كريم لا يردّ سائلا.. وكأنّه يقول لي:

- يا ابن آدم لا تخف أنا معك. (ص 206)

وفي موقع آخر يقول: "إيقاعات الحياة القاسية السريعة، لا تعطي فرصة للقلوب بأن تناجي ربّها..." ص 207

أرض العمالقة وحضارة "جمدة نصر"

في فصل عنوانه "التيه"، ترمي آلة الزمن بآدم في الزمن السحيق، زمن ما قبل نوح، أرض العمالقة. في هذا الفصل يبلغ الوصف ذروته، فيشدّنا بدقّته وجمال عرضه لسوق العمالقة، وهو يصف حركاتِهم وأقوالَهم بدقّة متناهية، فلا يرفُّ لنا جفن، إذ يأسرنا جمال الوصف، فتمثل الشخصيّات حيّةً أمام أعيننا كما في مشهد سينمائيٍّ متحرّك.

كما يبلغ السرد لديه كمال تناسقه، حين يعيدنا الى بداية الرواية من خلال نغمة سبق أن ورد ذكرها، وهي أغنية: "الليل الليل ... يا ميمون"، فيشعرنا هذا الرجوع الى بداية الرواية بترابطها وتلاحم أجزائها، إضافة الى توظيفه في نقل الرسالة الرئيسيّة من الرواية، والمقصود بها إعادة القيمة للإنسان لما فيه خيره.

بين ألمانيا النازية والقدس

ينقلنا السرد من أرض العمالقة الى ألمانيا حيث حلّ نوح سقراط. فيُدخلنا الى عمق المعتقلات، ينقل لنا صورة واضحة عما كان يجري فيها؛ نلمس وجعه على الإنسانيّة، يتمنّى لو أنّ الأمر توقّف عند الاعتقال من دون القتل! وينتهي الى وضعنا وجهًا لوجه أمام هتلر، وهو يتساءل بمرارة: "أهو إنسان مثل باقي البشر؟؟ يشعر ويتنفّس ويحبّ ويكره.. كيف له أن يتحمّل وزر كلّ هذه الدماء؟ ألم ينظر في عين أيّ منهم قبل موته بلحظات؟؟..." ص 213

وهنا يمرّر رسالة تُظهر ميله غير الدموي لربح الحرب، مُعربًا عن فكرته للتخلّص من اليهود، بشكل يبدو كوميديًّا، بالأخصّ لقادة الحروب، تجنّبًا لسفك الدماء: "كان من الممكن سجنهم مدى الحياة بهذه المعسكرات، وفصل الرجال عن النساء وبالتالي سيموتون وينقطع نسلهم من الدنيا، بدون الحاجة الى القتل المريع"! (ص 210)

ثمّ ينقلنا الكاتب الى حيث حلّ عزّام عزّام، الذي وقع في مدينة أورشليم القدس، في السنة 33 ميلاديّة، فاتّهمه الجنود حين رأوه، بالسرقة، وأمروا بصلبه الى جانب عيسى بن مريم. وقد ذكر لنا شيئًا من حياة عزام السلاميّة التي لا توحي بهذه النهاية التعيسة، فهو "طوال عمره يعيش ساكنًا هادئًا مبتعدًا عن المشاكل، يقرأ في هدوء، ويُجري تجاربه العلميّة بعيدًا عن الكون بأكمله..." (ص 217) وكأنّه صورة عن الودعاء المحكومين ظلمًا. ويستفيد من هذه المحطّة ليصف يسوع الناصريّ وشخصيّته، ورأي الناس به، وموقفهم منه.

حال البشريّة من سيِّئ الى أسوأ

مع ابرهيم قلقاس يُدخلنا الراوي واقعًا مستقبليًّا مختلفًا، يعكس مخاوفه ممّا ستؤول (أو قد تؤول) إليه حال الشعب المصري في المستقبل البعيد، أو الأبعد قليلا من زمان الرواية الذي جعله في السنة 2050. فقد اكتشف انّ بيته وعددًا من البيوت المجاورة له قد أزيلت وبني مكانها قصر، ليس سوى سفارة إسرائيل. وأنّ الشعب خاضع للوزير الإسرائيليّ "المحبوب الأعظم"، خضوع أبطال أورويل لـ"الأخ الكبير"! (ص 240-241)

تُرى كيف سيكون مصير أبطال الرواية الخمسة المشتّتين في الزمان والمكان: آدم في زمن لوط منتظرًا طوفان النبي نوح، "وعزّام عزّام مصلوب بجوار عيسى بن مريم بأورشليم القدس، ونوح سقراط متّهم باليهوديّة (بأنّه يهوديّ) في محارق هتلر، وعيسى ممتاز المحبوس مع إبليس في فجر التاريخ داخل قفص واحد... وإبرهيم قلقاس الملقى في زمان لم يأتِ بعد، مواجهًا رئيس وزراء إسرائيل، المسيطر على مشارق الأرض ومغاربها في المستقبل"؟! (ص 242)

أمام كل ذلك نجد الراوي يتصارع مع هذا الوجود المُغرِق في العبث، يؤدَّب ولا يتّعظ، وحال البشريّة من سيِّئ الى أسوأ. وقد يكون له من خلال كلّ ذلك هدف رئيس، ألا وهو خلق إنسان جديد "آدم جديد"، في يده تغيير هذا الواقع الأزليّ، لما فيه خير الإنسان.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم