الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

الجونة، يوماً بعد يوم

المصدر: "النهار"
الجونة، يوماً بعد يوم
الجونة، يوماً بعد يوم
A+ A-

انطباعات شخصية، مشاهدات، على مدار الساعة، عن السينما والمدينة وناسهما خلال مهرجان الجونة السينمائي، الطبعة الثالثة (١٩ - ٢٧ أيلول ٢٠١٩).

اليوم الأول - الجمعة ٢٠ أيلول (بعد الافتتاح)

حطت الطائرة على مدرج مطار الغردقة بسلاسة، في تمام الساعة ١٥:٤٥. أمي التي ترافقني إلى الجونة لبضعة أيام اشباعاً للفضول، وجدت المناسبة سانحة لإخباري بأن طيّاري خطوط الشرق الأوسط هم الأشطر في الهبوط بين كلّ زملائهم. معلومة أرجأتُ التأكد منها إلى أجل غير مسمّى، رغم أنني كنت لاحظتُ شيئاً من هذا في آخر سفرة على متن طيراننا الوطني من أربيل إلى بيروت. حدس الأم لا يخطئ.

خلال المرور من مطار القاهرة (حيث لم أنجح مرة جديدة في تشغيل الانترنت)، ثم وصولي إلى الغردقة، تم تفتيشنا والتأكد من أوراقنا مرات عدة. أفهم جداً الهاجس الأمني والظروف التي تمر بها مصر، ولكن لم أفهم لماذا أُجبرتُ على البحث عن الختم في جوازي عندما سألني عنه رجل الأمن في آخر نقطة تفتيش في الغردقة. لم يجد الختم، فلجأ إلى زميل له. بحث الأخير في صفحات جوازي، فصاح: “ما شاء الله”. لحظات فوجد الـ"٢٠ سبتمبر ٢٠١٩" المطلوب وسط غابة من الأختام، معلقاً: "هو ده ختم زي الناس؟". ضحكنا وصعدنا في الباص إلى الجونة.

الطريق من الغردقة إلى الجونة استغرقت نحواً من نصف ساعة. مناسبة لتبادل بعض الأحاديث مع صحافي عراقي يجلس بالقرب مني، والاطلاع على مجريات الحياة الثقافية في بغداد التي تتطلع إلى الأمام بعد سنوات من الصراع لأجل البقاء - كما روى لي هذا الزميل. أرض يابسة ومناظر جرداء تفصل الغردقة عن الجونة. لكن، ما إن تصل الى البقعة حتى تشاهد كلّ مظاهر الحياة، بدءاً من كلّ ما يدل على وجود مهرجان سينمائي.

تاريخياً، اضطلعت المياه بدور مهم في بناء كيان المهرجانات الأعتق في العالم، من كانّ إلى البندقية فلوكارنو. في الجونة، البلدة التي أسستها أسرة ساويرس قبل أكثر من عقدين، مياهٌ ورمالٌ تتداخل بتناغم وانسجام. البقعة الجغرافية برمتها أشبه بواحة وسط الصحراء. ما الذي أوصل السينما إلى هذا المكان؟ هذا ما حاولنا فهمه في الدورتين السابقتين. الآن، بدأت الأمور تتوضّح أكثر فأكثر: الترويج لقرية من خلال ثقافة وفنّ ووجبة سينمائية دسمة من عروض لأفلام فائزة إلى ندوات. فعلاً، أصابت الصحيفة المصرية عندما عرّفت المهرجان الوليد قبل عامين على هذا النحو: عين على السينما وأخرى على السياحة.

انقضى اليوم الأول (ما بعد الافتتاح) بترتيبات الوصول والاستقرار في الفندق. في السهرة، نزهة في المارينا لتنشق بعض الهواء الرطب، ثم عشاء سريع في أحد المطاعم، حيث الأكل بسيط والفاتورة غير بسيطة. عادةً، من المحبذ الوصول إلى أي مهرجان بالتزامن مع تاريخ انطلاقه، وكلّ تأخّر يمدّك بإحساس غريب في الجلوس على كرسي، سبب دفئه مؤخرة أخرى غير مؤخرتك. فالافتتاح جرى في الليل السابق، وقد أكّدت الصور التي شاركها المفسبكون سهرة على قدر من البهرجة، حضرها "النجم العالمي" مينا مسعود، الذي لم أكن سمعتُ به قط، إلى أن راسلتني جهة تسألني إذا كنتُ أريد اجراء مقابلة جماعية مع هذا الذي مثّل في "علاء الدين" لغاي ريتشي. بدا مسعود مبهوراً بالاهتمام المخصص له. أما فيلم الافتتاح، "نحو النجوم" للمخرج الأميركي الكبير جيمس غراي، فكان إحدى الخيبات الكبيرة لمهرجان البندقية هذا العام، بالرغم من اعجابي الشديد بسينما غراي.

في المساء، قبل التسلل إلى الغرفة، التقيتُ رئيس المهرجان إنتشال التميمي الذي غاب ثواني ليأتيني بالكاتالوغ. طوال ٢٠ سنة من العمل في مجال السينما، لم أرَ مسؤولاً يتعامل بهذه البساطة مع الأشياء. لا يجلس التميمي في كرسيه ليصدر الأوامر، بل انه رجل ميدان يمتلك الجواب عن كلّ شيء والحلّ لكلّ مشكلة. جاهز ومتأهب في كلّ لحظة للاستماع إلى أدق التفاصيل.

بهو الفندق هو المكان المثالي للقاء عابريه من سينمائيين ونقّاد وغيرهم في وضعية الاسترخاء. استرخاء يفرضه الجو في الفندق المزدحم بالأوروبيات والأوروبيين الباحثين عن بعض الشمس في نهاية الصيف. في هذا البهو بالذات، جلستُ أراقب فريق الفيلم السوداني "ستموت في العشرين" لأمجد أبو العلاء. شبان وبنات تغمرهم السعادة بوجودهم هنا، قبل أن يطلبوا منّي التقاط صورة جماعية لهم. فبعد فوزه في البندقية بـ"أسد المستقبل" مطلع هذا الشهر، بات الفيلم نجم اليوم الثاني للمهرجان، وعنوانه على كلّ لسان. عرضه لجمهور عربي في بلد مجاور للسودان له معنى خاص.

اليوم الثاني - السبت ٢١ أيلول

اكتشفتُ صباحاً، خلال تناول الفطور، ان معظم الزملاء في فندق و"حضرتي" في فندق آخر. هم في "شيراتون" وأنا في "موفمبيك". لا أعرف دقّة المعلومات التي تفيد ان خطّة المهرجان هي جعلنا نتنقل من مكان إلى مكان على امتداد الدورات المقبلة، كي نتعرف إلى كلّ الفنادق. كلّ شيء في "موفمبيك" يوحي بالضخامة: مساحات شاسعة يجب ان تقطعها للنزول إلى البحر، على سبيل المثل. لكن البحر يستحق الجهد.

وصول إلى الجامعة الألمانية ظهراً، القلب النابض للمهرجان. نقطة تفتيش أخرى على الباب. في الداخل، أي الباحة التي تتوسط الجامعة، مكان يلتقي فيه الجميع. يبلغنا التميمي بإطلاق المعرض المخصص للكاتب والصحافي المصري إحسان عبد القدوس (١٩١٩ - ١٩٩٠) في مئوية ولادته. مقتنيات شخصية، رسائل، قصاصات صحف، ملصقات، مكتبه الخاص الذي لم يتحرك من مكانه منذ ٥٣ عاماً. كاميرات التلفزيون والصحافة هنا لتوثيق الحدث. صحافية مصرية توافقني على ضحالة روايات عبد القدوس التي نعتها عباس العقاد بـ"أدب الفراش". لكن المعرض تصميمه جميل. على الأقل مفيد كي ندرك أين كانت الصحافة المصرية أيام صفّ الأحرف وأين أصبحت الآن في زمن الكومبيوتر. ثم، يستوقفني شخص ليسألني اذا كنت أتذكّره. أطلب منه نزع النظارتين اللتين تغطيان بعضاً من الوجه.

بعد ٩ أشهر من المشاهدة منذ مطلع العام، أكون قد شاهدتُ عدداً لا بأس به من الأفلام المعروضة في الجونة. مع ذلك، فالبرنامج حافل بأعمال لا تزال رهن الاكتشاف. علمتُ مثلاً بناءً على نصائح زملاء ان الفيلم البيروفي "أغنية بلا اسم" لميلينا ليون عمل لا يُفوَّت. في المقابل، حملتني رغبة شديدة في مشاهدة "الخائن" لماركو بيللوكيو مرة ثانية. ففي هذا الفيلم، يعود المخرج الإيطالي إلى ذروة فنّه، بعد أفلام متواضعة عدة، مقترحاً عملاً شديد الاتقان على مستوى السيناريو والتمثيل والإخراج والاستيتيك. هذا هو المحل الذي لطالما برع فيه بيللوكيو: الإنتقال المستمر من الحدث الكبير إلى الصغير، أو من العام إلى الخاص، وتصويرهما من مساحة واحدة.

بعد عرضه ظهراً، انتشرت آراء إيجابية في "البؤساء" للادج لي. يناقشني فيه أحدهم، فأدرك أنني نسيتُ التفاصيل. أربعة أشهر مرت مذ شاهدناه في مسابقة كانّ. فترة كافية لأنسى هذا الفيلم الذي لم يمسّني ولم أتحمّس له ككثر غيري. يقحمنا الفيلم في المنطقة حيث تتشابك الثقافات، الشلل، العصابات، الأخوان المسلمون، والقوّادون الذين نصبوا أنفسهم أولياء على البسطاء من الناس. هؤلاء الذين يعتبرهم لادج لي "بؤساء"، في اشارة إلى فيكتور هوغو الذي كتب روايته الشهيرة في مونفرماي (سين سان دوني)، البقعة التي تجري فيها الأحداث. لادج لي، ابن هذه الضواحي، يعرف عمّا يتحدّث بقدر معرفته بمحتوى جيبه الصغير. ولكن أكرر: لسنا حيال تحفة فنية!

في الخامسة عصراً، تُسند إلى المخرج السوداني صهيب قسم الباري جائزة “فرايتي”. فيلمه "التحدّث عن الأشجار" الذي نال جائزة أفضل عمل وثائقي في مهرجان برلين الأخير يقتفي أثر مجموعة سينمائيين مغامرين كانوا قبل سنوات من مؤسسي ما يُعرف بـ"نادي السينما السوداني". بعد سنوات، ها هم يجتمعون مجدداً لتحقيق حلم قديم: تأهيل دار للعرض في هواء الخرطوم الطلق، وافتتاحها، بعدما تحوّلت على مرّ الزمان إلى ما يشبه الأنقاض. العمل أثار حماسة الصحافة في عام سينمائي عربي باهت جداً. واختُتِم يوم مهرجاني طويل بعرض "لما بنتولد" للمصري تامر عزت، وكانت الآراء فيه سلبية جداً، ما عدا رأي مخرج مصري اعتبره عملاً يمتاز بالجرأة، علماً ان بعض مشاهده حذفتها الرقابة قبل الوصول إلى الجونة.

مساءً، وبعد لقاء عدد كبير من الناس وتقبيلهم على خدودهم، عدتُ إلى الغرفة لكتابة هذا المقال.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم