الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"المستقبل" أصبح من الماضي... حتى وإن عاد

المصدر: "النهار"
فيصل ج. عباس ـ رئيس تحرير عرب نيوز السعودية
"المستقبل" أصبح من الماضي... حتى وإن عاد
"المستقبل" أصبح من الماضي... حتى وإن عاد
A+ A-

أسوأ ما يمكن أن يحدث لوسيلة إعلامية هو أن تتحول من ناقل للقصة إلى أن تصبح هي القصة بحد ذاتها. هذا كان قدر تلفزيون المستقبل، وللأسف، لم يُكتب لتلك القصة نهاية سعيدة.


فبعد انطلاقة مبهرة عام ١٩٩٣، تحولت هذه القناة الفتية إلى منافس شرس على الصعيدين المحلي اللبناني، ومن ثم الإقليمي العربي خلال التسعينيات وفِي مطلع الألفية الجديدة.


وبسرعة تحوّل ذلك المشروع الذي أبصر النور في قصر مهجور في شارع سبيرز ببيروت في مرحلة كان عنوانها "إعادة الإعمار"، تحول إلى شعاع من الأمل يضيء سماء زيّنها بنجومه من إعلاميين وإعلاميات أعادوا تعريف معايير الشهرة والمهنية. وشيئاً فشيئاً، غزا "المستقبل" الفضاء بقنواته الموجهة لمختلف مناطق العالم، فتحولت القناة الوليدة خلال سنوات إلى شبكة شملت قنوات عدة، وصحيفة حملت الإسم نفسه، وإذاعة بعنوان "الشرق".


وباعتبار أنني لست منجماً، فلا أعلم إن كان بيان وقف البث الذي صدر قبل أيام هو ورقة نعوة تمثّل السطر الأخير في مسيرة هذه القناة، أم أن ما يقال حول "إعادة الهيكلة" صحيح، وأن التلفزيون سيعاود البث مجدداً.


ولكن، لمجرد كوني غير قادر على تنبؤ مستقبل "المستقبل"، فهذا لا يعني أنني لست مؤهلاً للتحدث عن ماضيه. فباعتباري تتلمذت في هذه المؤسسة التي منحتني أول وظيفة لي وأنا ما زلت على مقاعد الجامعة، وتعلمت في مكاتبها واستديوهاتها كتابة القصة الصحافية، ومنتجتها. ومن خلالها، تعرفت فيها إلى إعلاميين تحول كل شخص منهم إلى مرجع في تخصصه، وأصبح كثُرٌ منهم من أعز الأصدقاء لي، فلا يسعني إلا أن أشهد على ما عشته في الفترة التي عملت فيها في مبنى الأخبار في الروشة بين عامي 1999 و2003.

في الروشة، تعايشَ وعملَ السنّي والشيعي والمسيحي والدرزي جنباً إلى جنب بكل انسجام. كنّا نفطر سوياً في رمضان، قبل أن نعاود العمل تحضيراً لنشرة الثامنة مساء. وكنا نزين المكاتب بشجرة الميلاد في ديسمبر، ونحتفل به على الشاشة وخلفها. وحده "المستقبل" كان ينقل صلاة الجمعة، وعظات الأحد، ويبارك لجميع الطوائف بأعيادهم. وحده "المستقبل" كان يبث نشراته بالعربية والإنكليزية والفرنسية والأرمنية.

كان "المستقبل" منجماً للطاقة الإيجابية التي اشتهر بها مَن عمل فيه خلال تلك الفترة. كان "ميشو" يجول العالم العربي ويملأ ملاعب كرة قدم كاملة بأناس قدموا ليقولوا له "٢٥ ثانية... إلك"، وكان "خليك بالبيت" الملتقى الأسبوعي لأهمّ مثقفي العرب، وتجرأ "بالعين المجردة" و"سيرة وانفتحت" على الذهاب إلى حيث لم يجرؤ أحد، وكان "عالم الصباح" نافذة جيل كامل على جرعة يومية من الأمل والسعادة.

سياسياً، لمن لا يذكر، دافع "المستقبل" عن لبنان، وخاطر صحافيون بحياتهم لتغطية "عناقيد الغضب"، وساهموا في فضح انتهاكات الاحتلال، واستمرت القناة في وصف حزب الله بالمقاومة وإسرائيل بالعدو، حتى بعد انسحاب الأخيرة من الجنوب عام ٢٠٠٠.

وكان "المستقبل" أيضاً منصة لكل العرب، قاتل بشراسة لترسيخ فكرة الاسلام المعتدل، وتعرية الفكر المتطرف بعد أحداث ١١ سبتمبر/أيلول، ومجدداً خاطر صحافيوه بحياتهم لتغطية حربي أفغانستان والعراق.


لكن "المستقبل" لم يكن حتماً، ومع الأسف، قناة لكل اللبنانيين. ولعل أبرز مثال على ذلك هو الصاروخ الذي أطلقه "مجهولون" على مبنى الأخبار بالروشة في العام ٢٠٠٣. وكانت الرسالة واضحة في ذلك الوقت، فبغضّ النظر عن شعبيته داخل لبنان وخارجه، لم يكن "المستقبل" في أعين البعض سوى امتداد لمشروع الرئيس المغدور رفيق الحريري. وفِي حين أن هذا، تقنياً، صحيح... إلا أن هذا الأمر لم يكن بالضرورة أمراً سيئاً حين يقارن بالمشاريع، أو الـ"لا مشاريع" الأخرى التي كانت لدى الآخرين.


فقد حلم المرحوم رفيق الحريري بوطن منفتح، يتمتع بالتعددية ويمنح الفرص للجميع، ويضع الاقتصاد ورفاهية المواطن أولا، ويُحيد شعبه عن صراعات المنطقة، ويُعيد لأرضه السياح والمغتربين. إلا أن حلم الحريري هذا كان كابوساً للبعض بلا شك.


بالطبع، تم اغتيال مشروع رفيق الحريري باغتياله شخصياً عام ٢٠٠٥، وتشير أصابع اتهام المحكمة الدولية لعناصر في حزب الله، فيما غيّب الموت بظروف غامضة مسؤولين سوريين كان يمكن أن يدلوا بشهاداتهم. أما شبكته التلفزيونية فبقيت تصارع الموت من بعد موته، مادياً وسياسياً.


فبعد أن ثبتت نفسها كقناة "الحقيقة لأجل لبنان"، سرعان ما جاءها الجواب على أيدي أناس، تحركهم على الأرجح نفس الأصابع التي اغتالت الحريري. ففي الـ ٢٠٠٨، وإبان احتلال عناصر حزب الله لبيروت، تم حرق مبنى الأخبار في الروشة، وتصاعدت أعمدة سوداء من الدخان معلنة الحداد على مكان عملي الاول، ملتهمة جزءاً كبيراً من أرشيف هذه المؤسسة وذكرياتي وذكريات موظفيها.


لكن، وبرغم التضييق والمضايقات، بقي موظفو المستقبل أوفياء لعملهم ولخط رفيق الحريري، متحملين حتى الضائقة المادية التي عصفت بابنه سعد الذي رسّخ مكانته من جهة كزعيم لتيار "المستقبل"، لكنه ابتعد عن إدارة مصالح أسرته التجارية من جهة ثانية.


ومع توزع ثروة الحريري الأب بين ورثته، وبعض الخلافات العائلية، اختار كثير من موظفي "المستقبل" التحمل، وفاء منهم للخط السياسي الذي آمنوا به والذي رأوا فيه طوق النجاة الوحيد للبنان.


كان أمل الكثيرين أن سعد الحريري "سيدبّر حاله" عاجلاً أم آجلاً. وفِي حين غفر البعض الضائقة المالية وتفهّم ظروفها، خصوصاً مع مرور العلاقة بين سعد وحلفاء أسرته التقليديين في السعودية بتقلبات، فإن ما فاجأ الكثيرين وربما "أضاف الإهانة إلى الإصابة" كما يقال، هو مواقف سعد الدين الحريري السياسية التي لم يستطيعوا تبريرها. تماماً كما لم يستطع بعض الحمائم في أروقة صناعة القرار في السعودية نظرة بعض الصقور المتشددة تجاه سعد الحريري، ورأوا أن إضعافه سيأتي بمفعول عكسي، فيزيد من نفوذ حزب الله.


ولأنه من السهل دوماً التعليق على الماضي، وانتقاده، فربما كان مِن الأفضل - سياسياً وحتى إعلامياً- لابن الرئيس المغدور أن يبقى زعيم كتلة سياسية ظلت لفترة طويلة تشكل الأغلبية. كان ذلك ليجنبه إحراج الذهاب إلى دمشق كرئيس وزراء، وتبرئة نظام الأسد الحليف الاستراتيجي لحزب الله من دماء والده، ومصافحة حسن نصر الله من بعد ذلك. وكان ذلك سيساعده على التفرغ لتعزيز قاعدته الشعبية وخدمتها، والالتفاف حول حلفائه التقليديين وتعزيز العلاقات معهم بشكل إضافي.


وبالتأكيد، أقول قولي هذا فائق التقدير والتفهم لما يتطلبه شغل منصب رئيس الوزراء من مسؤولية وتضحيات واتفاقات لضمان استقرار بلد بقي على صفيح من نار لعقود طويلة.


بلا شك، فإن إقفال "تلفزيون المستقبل" - ولو مؤقتاً- يُعدّ خسارة كبيرة، ليس فقط لتيار سعد الحريري وإنما لأصوات الاعتدال في المنطقة بأسرها، في وقت يستثمر فيه المتطرفون والمارقون بشكل كبير في الصحف والقنوات والإعلام الجديد.

وفِي النهاية، لا يسعني سوى أن أتمنى التوفيق لكافة الزملاء السابقين، وأن أشاركهم آلام الإقرار بأن "المستقبل" بات من الماضي... حتى وإن عاد.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم