السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

البندقية ٧٦ – "جدار الصوت” لأحمد غصين: أبي لم يعد مقاوماً

المصدر: "النهار
البندقية ٧٦ – "جدار الصوت” لأحمد غصين: أبي لم يعد مقاوماً
البندقية ٧٦ – "جدار الصوت” لأحمد غصين: أبي لم يعد مقاوماً
A+ A-

"جدار الصوت" لأحمد غصين عُرض في مهرجان البندقية السينمائي (٢٨ آب - ٧ أيلول)، ضمن فقرة "أسبوع النقّاد". هذا هو الفيلم اللبناني الطويل الوحيد المعروض هذا العام في التظاهرة التي شهدت عبر تاريخها مشاركة العديد من الأفلام اللبنانية، آخرها "قضية رقم ٢٣" لزياد دويري، قبل عامين.

عُرف غصين بأفلامه القصيرة والوثائقية، أشهرها "أبي ما زال شيوعياً" (٢٠١١). "جدار الصوت" الروائي الطويل الأول له، وقد حققه بعد سنوات من التأمل والتفكير والبحث عن امكانات تتيح له تجسيد رؤيته.

يصوّر الفيلم الحرب التي شنّتها إسرائيل على لبنان في صيف ٢٠٠٦، وانتهت بمقتل نحو ١٢٠٠ لبناني وخلّفت دماراً كبيراً. تلك الحرب التي لا اجماع إلى اليوم على ضرورتها، يقاربها الفيلم بمنطق محض سينمائي، بعيداً من أي تسييس (السياسة في معناها المباشر)، بمعنى انه مهموم بالإنسان ومصيره في زمن الضائقة، أكثر من اهتمامه بأي شعار أو قضية أو صراع. الصراع محسوم لمصلحة الفرد.

فَهِم غصين شيئاً أساسياً عن الحرب، وهو انها صوتٌ أكثر منها صورة. عندما أغمض عيني، لا يحضرني من الحرب الأهلية سوى صوت الرصاص والقنابل. كان الأصعب عندما نسمع صوت اطلاق القذيفة وننتظر سقوطها. الصوت علاقتنا بالحرب. ليس لي عن الحرب صور كثيرة، بل أصوات فظيعة، تلك المزعجة المتداخلة المرعبة.

الفيلم يحشر مجموعة من الناس داخل بيت في قرية جنوبية (مسقط المخرج)، تتعرض للقصف الإسرائيلي. لا حول ولا قوة لهؤلاء. لا يملكون سوى التريث، علاقتهم اليتيمة بالخارج هي الأصوات التي تهدد بلا رحمة. محاولة الصمود في وجه القنابل الإسرائيلية تلغي فكرة البطولة والانتصار، ويحوّلها سعياً للبقاء حياً، الغريزة الأبسط عند الإنسان. في حين يحتل الجنود الإسرائيليون الطبقة الأولى من المنزل، ليفعلوا ما يفعلوه، يختبئ "أصدقاؤنا" في الطبقة الأرضية. الفيلم يكتفي بالحد الأدنى. ويبني عليه "لا خطاب".

يحاول المخرج اشاعة جو كلوستروفوبي وعينه على تماهي المُشاهد مع الحالات النفسية التي تعيشها الشخصيات تحت القلق والخوف والتهديد الصوتي. لا فيلم حربياً بلا تماهٍ.

على غرار الفيلمين الإسرائيليين، "بوفور" لجوزف سيدار و"ليفانون" لسامويل معوز، يزيح الفيلم العدو من الكادر، ويكتفي بحضوره عبر الصوت. في الفيلمين المذكورين آنفاً، اللبناني غائب، وفي "جدار الصوت"، الإسرائيلي المتسبب بالخراب في الجنوب وغيره، مغيّب هو أيضاً. هل السبب مبدئي أو سينمائي محض؟ سؤال لا بد من طرحه، على هامش الفيلم. والحقّ ان تغييب شخص يشكّل تهديداً واضحاً يزيده حضوراً وسطوة. أفلام الرعب أدركت هذا مبكراً.

مجموع الأشخاص الذين داخل المنزل ينتمون إلى جيلين أو أكثر (الراحل عادل شاهين، بطرس روحانا، سحر منقارة، عصام بو خالد)، لكنهم جميعهم عاشوا تجارب سابقة، منها الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام ١٩٨٢. مروان (كرم غصين) أصغرهم سناً، يعود لاصطحاب والده إلى المدينة لحمايته من الخطر، ووالده يرفض المغادرة، متمسّكاً بالأرض، فهذا أقصى ما يستطيعه. الفيلم يصوّر الجميع في حال عجز تام. لا مقاومة ولا مَن يحزنون. نادراً صوّرت السينما هذا العجز، وفي هذا أجاد غصين صنعته. كلّ الكلام الذي نسمعه في الفيلم لا يساوي رصاصة!

عندما خرجتُ من العرض، سألني ناقد جالس في مقهى عن رأيي في الفيلم، فأفصحتُ عنه. ثم أراد معرفة اذا كان العنوان (بالإنكليزية: كلّ ذلك النصر) ساخراً. قال لي انه لاحظ ان العرب يحولون هزائمهم انتصارات. فقلتُ له ان اليهود يفعلون العكس: يحوّلون نصرهم إلى هزائم.

أياً يكن، لا يطرح أحمد غصين نفسه مؤرخاً ولا خطيب منابر، لا يحاسب أحداً ولا يدين شيئاً ولا يبيع موقفاً، ولا يعيد كتابة فصل من تاريخنا. فيلمه محاولة لفهم لحظة خاطفة، والأرجح انه لن يساعده ويساعدنا في فهمها. يروي ما يرويه من وجهة نظر ابن جيل لم يطلب أي شيء من هذا كله، وكان هو تحديداً في الخامسة والعشرين يوم وجد نفسه مدفوعاً في اتجاه لم يتجه اليه. انها لحظة لم تفد في شيء، عبرت وتركت فينا الفراغ الذي يصعب على أي مخرج التقاطه والتعبير عنه، لكن، في النهاية، يتسرب شيء منه إلى الفيلم.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم