الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

أرشيف "النهار" - العلمانيون الأرثوذكس والسلطة

المصدر: أرشيف"النهار"
Bookmark
أرشيف "النهار" - العلمانيون الأرثوذكس والسلطة
أرشيف "النهار" - العلمانيون الأرثوذكس والسلطة
A+ A-
للارثوذكسية فلسفة وبعض السمات الخاصة طبعت تاريخ علاقتها بذاتها وبالمؤمنين من ابناء الديانات الاخرى. فالمسيحية الارثوذكسية هي التوتر والاتحاد بين حب المتسامي الالهي وحب البؤساء الذين يتألمون. فخومياكوف اللاهوتي الروسي الكبير كان يقدس الخيار الحر للانسان، وهو الذي ابتدع مصطلح Sobornost. وهو يفيد الاتحاد الحر بين المؤمنين المسيحيين الآتي من فهمهم المشترك للحق، وبحثهم المشترك عن الخلاص. وذلك الاتحاد قائم على حبهم الجماعي للمسيح وللحق الالهي. فمبدأ الحرية لدى الارثوذكس يرتفع الى مرتبة القدسية. وها هو الفيلسوف الارثوذكسي الاهم في هذا القرن، نيكولاي برداييف، يقول: "اقاوم اية ارثوذكسية تحاول تحديد حريتي او تحطيمها سواء أكانت سياسية أم دينية" (1). في هذا السياق ينظر برداييف الى الحرية في مجالها الشديد الاتساع الهادف الى الكشف عما فيها من بعد متعالٍ وشمولي. فالفرد الحر عنده ينطلق من خلال الفعل الخلاق الى تمام الوجود وكليته. والفلسفة الارثوذكسية تعلّم ابناءها ان الروح والحرية شأن واحد. اما اللاهوتي والمفكر الارثوذكسي الروسي الآخر سرغي بولفاكوف فهو يفصل الارثوذكسية عن قيود الانظمة والاحزاب السياسية. فيشير الى انه "لا توجد اية علاقة وطيدة داخلية بين الارثوذكسية وهذا او ذاك من النظام السياسي. لا بل يمكن للارثوذكسيين ان يتبنّوا افكاراً سياسية مختلفة. هذه مسألة لها علاقة بضمائرهم السياسية وبحكمتهم. فالارثوذكسية حرة ولا يتوجب عليها ان تخدم هذا النظام السياسي او ذاك. لها خطابها الديني لا السياسي الهادف الى ذوبان السلطة في الجو الكنسي. وخطابها لا يحمل لواء السيف والترس او الدولة الكنسية الممثلة في نموذج الحكم البابوي. من هنا ندرك سبب عدم اعتبار نفسها كاثوليكية: هي ليست بابوية ولا قيصرية..." (2). يستنتج من هذا انسلاخ الارثوذكسية عن شؤون السياسة، بمعناها الضيق، والتي هي من اختصاص اناس لا يرتبطون بالمؤسسة الكنسية. وهذا الموقف عبّر عنه في اكثر من مرة المفكر المسيحي المشرقي المطران جورج خضر محذراً من زج الكنيسة في شؤون السياسة حيث يقول في احدى مقالاته (في "النهار"): "الكنيسة غريبة عن المدينة الارضية غرابة المحبة عن الاكراه. لكن الكل يريد ان يزجها في شؤون الارض. قيادتها تفعل ذلك لتكسب نفوذاً لدى اهل السلطة. والذين في السلطة يفعلون ذلك ليستعبدوا الكنيسة آنذاك لتصير من مدينة الارض ولا تصبح الارض مقراً للاله" (3). وهذا القول قد ينطبق على مواقف بعض الطوائف المسيحية الاخرى وليس على الكنيسة الارثوذكسية في العديد من مواقعها حيال المسائل الكبرى في التاريخ السياسي المحلي والدولي. كما ان القارئ المتمعن في كتابات سلافيوف ومين وغيرهما يلمس بان فكرهم اللاهوتي كان شديد الحرص على ان يحدد نقاط التمايز بين الرؤية المسيحية الشرقية والرؤية المسيحية الغربية حول العديد من المسائل المتعلقة بالحياة الروحية داخل الكنيسة وعلاقتها بمحيطها. فالكنيسة الشرقية لم تشهد في تركيبتها التنظيمية فوقية ظاهرة ولا تراتبية تنظيمية صارمة من الطغيان الاكليركي. وكان همّها الدائم ينصبّ على التزام مبادئ الانسجام والتشارك والشورى بين الاكليركي والعلماني، وعلى التأكيد ان الكنيسة هي تجسيد حي ودائم للمحبة. ومشرقياً كانت الارثوذكسية سبّاقة للالتزام بعروبتها وانطاكيتها. وقد اعتبرت نفسها القلب النابض للمسيحية الشرقية عامة. ولم تعرف علاقتها ببيئتها العربية او الاسلامية في معظم تاريخ حضورها اية خضّات جادة... تلك هي اساسيات رافقت وترافق الرؤية الفلسفية واللاهوتية الارثوذكسية لمسائل السياسة والتربية والدنيا عامة. بيد ان هذه الاساسيات التي حملها ويحملها كبار حكمائها لم تكن دائماً بهذه الدرجة الواضحة من علاقتها بتلك المسائل. ان اختراق السياسي لها، وانغماس الديني في شؤون "القيصر" وجمود حركة الاجتهاد اللاهوتي في بعض المراحل، كلها عناصر عرّضتها لبعض الخضّات التي تكبر او تصغر تبعاً لعلاقة العقل الكوني العلمي بالوعي الديني الدوغمائي من ناحية او علاقة الكنيسة بهذا النظام السياسي او ذاك. وهذه مواضيع سبق وتناولنا البعض منها في ابحاث سابقة لنا. ان هاجس هذه المقالة هو مناقشة بعض مواقف وآراء العلمانيين الارثوذكس من مسألة السلطة والعلاقة بين الدين والدنيا...
ادعم الصحافة المستقلة
اشترك في خدمة Premium من "النهار"
ب 6$ فقط
(هذا المقال مخصّص لمشتركي خدمة بريميوم)
إشترك الأن
هل أنت مشترك؟ تسجيل الدخول

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم