الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

لعبة الجنود

المصدر: "النهار"
علي السباعي
لعبة الجنود
لعبة الجنود
A+ A-

أعيش في حَواري وأزقة الناصرية، مدينتي الجنوبية الفقيرة الصغيرة العراقية العريقة، شرق أور. كانت الحربُ العراقيةُ - الكردية الثانية عام 1975 في أوجها، كان عمري حينها خمس سنوات، وكان آباؤنا وأخوالنا، أبناءُ الشعب العراقيِّ الواحد يُقاتِلُ بعضهم بعضاً. تفتحت عيناي على رؤية مدفع الهاوتزر d-30 الروسي عيار122 ملم ، يوم كنت أخرج من دارنا ذاهباً إلى المدرسة الابتدائية، أشاهده في الساحة التي أمام دارتنا. كبرتُ والمدفع عينه وحماقات الديكتاتورية الشمولية بنظامها العسكريتاري تغامر بمصائرنا وإنسانيتنا وتستبد في كل شيء. جعلتنا نخسر الحب والجمال والعدل، فخسرنا الكثير في حروبها العبثية المدمرة التي أكلت أعمارنا في تصنيعها العسكري حتى أحدودبت ظهورنا الشابة في السخرة الإجبارية داخل ترسانات الأسلحة العسكرية. ضاعت سنوات طفولتنا دون جدوى داخل سوح عسكرة المجتمع العراقي المدني. من يومها ونحن لم ننعم بالسلام والأمان قط. لم أعش طفولة سعيدة، كنت طفلاً صغيراً وحيداً وقد جعلتني هذه الأحزان أكتشف عالم الكتب في وقت مبكر من حياتي. كانت لديّ بعض الأحزان وكانت الكتب أفضل أصدقائي، فشرعت أكتب القصة القصيرة. كنت أمضي إلى أرض القصص لأنها ملونة وأكثر واقعية من الحياة التي أعيشها برؤية مدفع d-30.

كان المطلوب منّا نحن أبناء الوطن الواحد أن نلتزم الصمتَ إزاء كل ما يحدث من حولِنا، وأن نسير جَنْبَ الحَائط الآيل إلى السقوط. كنتُ أيامَها ألعب لعبة الدنود مع أقراني الصبية المرتدين "البجاما البازة والدشداشةُ الكودري". لم أكنْ أعرف أنَّها ستكون لعبةً حقيقيةً في يومٍ ما من حياتنا حين ستقودنا أقدارنا إلى مواسِمِ التوحش العراقية، مواسم القيظ العراقي في صحارى الحروب والقتل والقصف والموت والأسر وقطع الأُذن. عَنَّ بفكري قَول الكاتب النمسوي كارل كراوس: "عندما تنخفض شمس الثقافة عند مستوى الأُفق، تصبح للأقزام ظِلالٌ كبيرة".

كانتْ حَياتُنا في الحرب داميةً ملؤها الألم والمآسي والفقدانات الكثيرة والخذلانات الكبيرة والذكريات المرة. الملاعين مشعلو الحروب جعلونا ندور مثل النواعير. الملاعينُ جعلونا ندور مثل حميرِ النواعيرِ معصوبي الأعين حول محور الحرب. كنتُ أسمع عنها، صرتُ أسمعها، أسمع الحَربَ، أسمع أصواتَها، أصواتَ إصاباتِ جرحاها، أصوات سقوط قتلاها، أصوات بكاء الأبناء، أصوات عويل النساء، أصوات هَرْسِ عِظامِ الجنودِ، أصوات قَصْفِ مدافِعِها، أصوات هديرِ دبّاباتِها الروسيةِ الصنعِ، أصوات صرير سُرْفَات مدرَّعَاتِها، وأصوات زمجرات آلياتِها ذات الصنعِ الألمانيِّ الشرقِيّ. أصبحتُ أعرِفُها ولا أعرفها. عندما اشتدتْ علينا نيرانها، وتكررتْ حُزَيرَاناتُنَا، واستفحلتْ مزدهرةً هَباءاتُها.

ثمّ اندلعت الحربُ العراقيةُ - الإيرانيةُ، فوجدتُ نفسي أرزح تحت فَضَاءاتِها حاملا همومَ جيلٍ اكتوى بنيرَانِها. أثناءَها حاولتُ أن أمتلكَ اللغةَ، لغَةً حيةً، ولغتي العربيةُ هي اللغةُ الحيةُ في قصصي جعلتْني أحسُّ بأنّني أَمقتُ الحربَ، وأكرهُ مروّجيها، وأتعذَّب لخنوعي لقدرها علينا، وألعنُها وأنا أعيش معاناتنا فيها. ما عشتُه وعايَشتُهُ داخلَ أتونها المستعر بأعمارنا، حَوّل حياتنا إلى قصص والقصص إلى كوابيس وأحلام. الكتابة القصصية الواعية خلقتْ لي حياةً موازيةً لجأتُ إليها لمواجهة قسوة زمننا المغبرِ. فَتحْتُ عَينيَّ بدهشةِ طفلٍ لأننّي بهما سأكوِّن كلماتها ومدادها وسطورها، وسأَحْرثُ أرضَ الورقة البيضاء بمساءات الكتابة القصصيّة، التي جعلتْني طبيعياً، وأبعدتْني عَن الجنون، والقبح، وعلَّمتْني معنى الحياة، ومعنى الأَدب، ومعنى عظمة الخيبة، وجعلت اللّحظة العابرة مشهداً مؤثّراً، قصصاً مؤثرةً، مددتُ بها جسوراً يعبر بها الناس إلى ضفافٍ آمنة. كتبتُ قصصهم لأخرِجهم من راهنهم المُقِضِّ للمضاجع إلى نور بياض شمس ورقة الكتابة، ولأجعل السطور الحاملة قصصهم أحلاماً، وأحمل الأحلام إلى تغيير حياتهم. قرأتُ لألبر كامو كيف يُغيّرُ الأدبُ حالَ الناسِ: "نحنُ جميعاً نحمِلُ في دواخِلِنا مَنَافينا وجَرَائمنا وانتقاماتِنا. لكن! واجِبُنا لا إلقاؤها على العالم بل أن نقاتلها في أنفسنا ونفوسِ الآخرين".

رحتُ أرَدّدُ ما كَتَبَه كامي لورانس: "بماذا يفيد الأدب إن لمْ يعلْمنا كيفَ نحبْ؟"، وأرسم لنفسي طريقاً كالذي تحدثت عنه إدنا فربر: "وحدَهم الهُواةُ يقولون إنهّم يكتبون من أجل السعادة. فليستْ الكتابةُ عملاً مسلياً. إنها خليطٌ من حفرِ الخنادقِ وتسلقِ الجبالِ ومَخَاضِ الولادة". قد تكونُ الكتابةُ شيئاً شيقاً مُهماً، مُبهجاً، مُرهقاً، مُفرحاً، مُروِّحاً عن النفسِ، أما أن تكون عملاً مُسلياً فأبداً.

سألتُ نفسي بعدَ مشوارِ عمري في الأدب هل أنا على صوابٍ أم على خطًأ؟ أنا أتعذب. لكن! بصمتٍ أحترقُ، وصرتُ أذوي لفرط حزني على الآخرين وحزني على نفسي.

يحيّرني السؤال كيف يكون المثقفُ مشروعَ حياة؟ لا أجد جواباً غير أني أدوّن ما أراهُ بمشاهدةِ ألوانِ فائق حسن، وأحسه عندما تتلمس عيناي منحوتات جواد سليم، وأسمعهُ بصوتِ أم كلثوم، وأراه بغناء عبد الحليم حافظ، وأسافرُ معهُ في قصائِدِ نزار قباني. جميعُهم كانوا يسألونني: هل نحن على صواب؟ أنا مثلهم أسألُ: هل أنا على صوابٍ في ما أنا مُؤمنٌ به؟ أؤمنُ بأن الأدبَ يغيّر أحوال الناس بتغييرِ طريقة تفكير عقولِهم. قَدَحَ في خلدي ما قالهُ علي عزت بيغوفيتش: "الإفراطُ في القراءةِ لا يجعلُنا أكثرَ ذكاءً، إن بعضَ الناسِ يلتهمونَ الكُتبَ التهاماً. وهم يفعلونَ ذلك دُون التدبُّرَ اللازمَ لهضمِ الأفكار، ولمعالجَةِ، وإدراكِ، وامتصاصِ ما قرأوه، وحين يشرعُ أناسٌ من هذا النوعِ بالحديثِ، فإنَ أفواهَهَم تقذِفُ بِقطعٍ كاملةٍ من هيغل، وهايدغر، وماركس؛ كمنْ يتقيّأ طَعَاماً نيّئاً، بدونِ الهَضْمِ الضرَّوري! إنّ القراءَةَ تَستلزِمُ جُهداً ذَاتياً، وهِيَ في ذَلك تُشبهُ احتياجَ النّحلةِ للجُهْدِ الجوّاني، فَضْلاً عن الوَقْتِ، لِتَحويلِ الرَّحِيقِ إلى عَسَل".

وصَلَتْني رسالةٌ من أَحد القرّاءِ الأموات، رَحِمَهُ الله: لِمَ التشاؤمُ؟ وأنتَ شَجَرَةٌ مُثمِرَةٌ في صَحْرَاءِ معشوقَتِكَ الناصريةِ التي يَلوذُ فِيهَا الحالمون. أيقنْتُ وأنا اُنهي رسَالَتَهُ بِمَا قَالَهُ باولو كويلو: "لَيس للكَونِ مِن مَعنىً إلاّ حِينَ يكونُ لدينا أحدٌ يُشاطِرُنا انفعالاتِنا". هذا يعني أنَّ القراءَةَ في عصرِنا هذا لا تزال تتطلب أحياناً قدراً من الشجاعة لأنَّها، بلا شك تُغيّرُ حياتنا، وتُغيّرُ حياة الناس.

قصصي تنبض بالعراق. بدأت به واستمرتْ منذ حرب الخليج الأولى فالثانية فالغزو وصولا إلى اللحظة الراهنة. خلال ذلك كلّه نحن نتجرع كؤوسَ القهر والظلم والإقصاء والتجاهل ، وتشتد علينا قبضة المحاصَرين مع القبضة الاستبدادَّية للديكتاتورية، وتنعكس على معنى حياتِنا.

كانتْ كتاباتنا مختلفة وبعيدة عن جوقة المطّبلين. قصصي عن الناسِ جميعُها مُختَرَقَةٌ بذلك السيف الأحمر القاتل الذي يتسيّد حياتنا اليومية باستمرار، يمرق بين القلب والروح، مهدداً سلامنا بالرعب والغروب والعطش والفناء. أتذكر كلَّ شيءٍ، كلَّ ما مرَّ بنا، وكلَّ الحياة. كلُّ حياتي أتذكرُها لأنني عانيتُها.

كلنا مأزومون محبطون من أوضاعنا الشخصية وأوضاع بلدنا المثخن بالجراح، لكن قدرنا أن نحدّق بالشمسِ ونرنو إلى الأفق وضوء النهار، على رغم أن مدفع الهاوتزر d-30 الروسي عيار122 ملم، لا يزال ساجداً أمام عيني على أديم مخيلتي.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم