الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

كتاب - "شارع اللصوص" لماتياس إينار: طواف الموت في عالم الهالكين

جينا سلطان
A+ A-

اختار الكاتب الفرنسي ماتياس إينار في روايته "شارع اللصوص" سرد التاريخ المعاصر بلسان لص صغير جرفته عقدة الاضطهاد نحو تبني القتل. من خلاله حاول تقديم رؤية مبكرة لدراما الثورات العربية، التي سيعقبها الانهيار الأوروبي.


الرواية ثلاثة أقسام تتشابه في طوافها حول صنوف الحياة المحاصرة بذهنية التكفير والإلغاء. البطل مراهق مغربي في السابعة عشرة من عمره، ضيّق الأفق، مشتت الذهن بجموح الرغبة، يباغته والده مع ابنة عمّه مريم في وضع مشين، فيطرده من المنزل بعد أن يشبعه ضرباً واذلالاً، فيتشرد ويجوع شهوراً حتى تلتقطه جمعية نشر الفكر الإسلامي في طنجة، وتضع حدا للبؤس والاستلاب مقابل دفء المأوى المشروط. مما يعني ترويضا للوحش في داخله وتدجينه على طاعة السيد. وهي لازمة متكررة في الرواية يختزلها إينار في صورة الرجل/الكلب الذي يدرك مع أمثاله معنى غياب السيد؛ الذي يجعلهم يتسكعون في الظلام بحثاً عنه. عالم من الكلاب والمتسولين المتروكين، يصعّب مقاومة التفاهة والمهانة المستمرة التي تلحقها الحياة بنا. صيغة الاحتقار هذه تطال نوعية القراءات الرخيصة للبطل، والمحصورة في الروايات البوليسية السوداء، التي تقولبه بهوية متحركة تستدير حول النص لتفضي إلى التوصيف: "حيوانات وُضعت في أقفاص تعيش لأجل المتعة في الظلام".
ينطلق إينار من مقولة كونراد: على المرء ان يرى في شبابه أشياء ويجمع خبرات وأفكارا ويشرع آفاق ذهنه. فهي مرحلة التأسيس الفعلية لبناء الذات الفردية الرافدة للمدنية المجتمعية. ولكن في حالة البطل تصطدم محاولات الاستبصار بعمى الجهل المتزايد، الذي يتنقل به من أحضان الاسلاميين إلى مؤانسة الأموات في ألجزايرس الاسبانية، لينتهي به المطاف في شارع اللصوص، حيث يرسي أسئلة الاستفهام حول مستقبل النوع الإنساني في ظل تنامي الحقد والعنف العالمي. فاقتران الثورات بالهراوات التي يفرض بها الاسلاميون احترام الدين على الكفّار، يومئ بوضوح إلى طغيان المد الأخضر المرتقب، مما يجعل المراهق يتنبأ بانتهاء الربيع العربي تحت ضربات الهراوات، ليبقى الشعب عالقا بين شقي الرحى، بين الله والسندان. بعد التفجير الارهابي الأول في مراكش تتمحور أحلامه حول هلع رؤى جحيمية تتكرر يوميا، وتتلبس جثة مريم التي يملأها جنسيا.
يخرج المراهق من تحت عباءة الاسلاميين إلى عبودية العمل عند الناشر الفرنسي، ناسخا الكتب وموسوعات الطبخ والرسائل المكتوبة بخط اليد والارشيفات. آخرها يتعلق برقمنة السجلات الفردية للمقاتلين الفرنسيين ابان الحرب العالمية الاولى. مع كتابة اسماء غادرت اجسادها، بدأ يفكر في الرحيل الى بلاد لا تتأكلها الضغينة ولا الفقر ولا الخوف.
تتمثل الحرية لديه في السفر وكسب المال والتنزه باطمئنان مع صديقته الاسبانية جوديت، والصلاة ساعة يشاء وارتكاب الخطيئة ساعة يشاء. لكن الحرية تأتيه مقرونة بالحزن، حين يعلق على متن عبّارة عند الساحل الاسباني، وينال الاقامة المشروطة لدواع إنسانية، ليضطر مجددا إلى عبودية العمل في ألجزيراس الاسبانية عند جنائزي يدمن مشاهد العنف والتعذيب والمجازر على النت، كأنه يفتش عن أسئلة لم تكن جثث اللاجئين غير الشرعيين تجيب عنها. الصلاة التي يؤديها المراهق على بقايا الوجود الغامضة للموتى المجهولين، تبدو التماسا مجردا حزينا وسط الرعب وعفن النفس المستغرقة في الوحدة. لذلك حين يهرب عقب انتحار الجنائزي، يترسخ لديه انطباع بأنه يجتاز بلاد الظلمات الحقيقية، ظلماتنا، فتوطنه جوديت في شارع اللصوص بضواحي برشلونة. ومن خلال محادثاتها معه يستعرض إينار مأزق الدولة الاسبانية المفلسة التي تتفشى فيها البطالة، وتنهال هراوات الشرطة على كل الذين يشعرون بالاستياء من تدهور الوضع الاقتصادي، ومعاودة صعود البؤس من اغوار تاريخ اسبانيا، مما يدفعه للتنبؤ بسقوط إسبانيا القريب في دوامة الحقد والعنف، وخصوصاً مع تداعيات سقوط المظلة الاجتماعية وعجز الحكومة المتزايد عن الاعتناء بالفقراء والمسنين.
يعزو إينار انهيار اسبانيا المرتقب إلى لعنة السياحة، باعتبارها خدعة أنتجت ثروة زائفة وعنفا. فمال السياحة يحفز التخلف والفساد والكولونيالية الجديدة، فتتنامى الضغينة على مال الاجنبي، سواء من الداخل او الخارج، ويؤلب المال الفقراء بعضهم على بعض، لتتحول المهانة بهدوء الى حقد. ويتنامى الضغط والعنف، كما لو ان العالم بأكمله على وشك السقوط في محور ديكتاتورية الهراوات، فيما يبقى للمحور الآخر خيار التضحية بالنفس او البقاء على شرفة وقراءة الكتب، التي لم تحرق حتى تاريخه كحال المراهق.
مع خدعة الاضرابات الاسبانية المنظمة والمفرغة من معناها، تبدو وسائل الاعلام كأنها تصنع مملكة الحقد والكذب وسوء النية. فالمستاؤون يجردون من حقوقهم الدستورية في الاقتراع على رغم كونهم ناشطين سلميين، لأنهم يتنافون بصفتهم تلك مع الديموقراطية، ولا يستحقون الا ضربات الهراوات والاعتقالات الجماعية. هنا يضع إينار مديونية أوروبا الكبيرة محل السخرية، إذ يتساءل هل كانت اوروبا تسلم بأنها لا تملك وسائل تقدمها، وان تطورها خدعة، وان اسبانيا وكل ما نراه فيها من جسور ومستشفيات ومدارس ليس الا وهما تم شراؤه بالدين الذي يوشك ان يسترده دائنوه!
يفترض إينار على لسان مراهقه أن حيواتنا ربما تستحق ان تعاش من اجل لحظة واحدة مستنيرة، ثانية واحدة من الشجاعة. لذلك يدفع بطله لارتكاب القتل دفعاً لشبهة الجنون، بعد أن يتنبأ بالطاعون الجديد الذي يجتاح قسما كبيرا من العالم، فيطوف المجانين عميانا في محراب الموت دونما عون ينجدهم.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم