الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

الديموقراطيّة التّعطيليّة

المصدر: "النهار"
ميشال الشمّاعي
الديموقراطيّة التّعطيليّة
الديموقراطيّة التّعطيليّة
A+ A-

لقد أودع التّاريخ آمالاً عريضة في #الدّيموقراطيّة التي فرضت نفسها منذ قرابة الألفيّتين ونصف الألفيّة من السنين تقريبًا، على الرغم مما قاله عنها أفلطون (427 ق.م. حتى 347 ق.م.) بأنّها "حكم الرّعاع" الذين يتأثّرون بالخطابة التي تحرّك عواطف الجماهير، أكثر من تأثّرهم بالفكر النّيّر. وقد جاء أفلطون بعد بيريكليس (490ق.م. 429 ق.م) رجل الدّولة الأثيني الذي طبّق الديموقراطيّة العدديّة في زمن كانت فيه إمبرياليّة أثينا سبب ثرائها وعصرها الذّهبي.

ولقد عرفت الدّيموقراطيّة تبدلات وتطوّرات بشكلها، وقد برهن التّاريخ أنّ ديمقراطيّة ما في زمن ما وفي مكان ما، ليست سوى برهة صغيرة جدًّا من لحظات الزّمن الإنساني. لذلك، هي ضرورة خلقيّة وقيمة من القيم الإنسانيّة التي ترتبط بالحرّيّة الشّخصيّة الكيانيّة التي تثبّت وجوديّة الكائن البشري، سواء أكان فردًا أم جماعة. والدّيموقراطيّة لا تتحقّق بالنّصوص التي تنشئها فقط، بل بالأشخاص الدّيموقراطيّين الذين يؤمنون بتطبيقها انطلاقًا من وجدانهم وأخلاقهم الحرّة. أمّا أولئك الفجّار التّجّار والذين أصيبوا بجنون العظمة، فمهما تغنّوا باسمها ومجّدوها وناصروها، تبقى أعمالهم هذه مجرّد أعمال فولكلوريّة خدمة لمآربهم الشّخصيّة.

ويبقى أنّ التّعريف الذي أعطاها إيّاه بيركليس في العام 431 ق.م. حيث حصرها بأنّها "حكم الأكثريّة في وجه الأقليّة"، لا يرقى بها إلى معارج الحرّيّة التي طبعت لبنان منذ نشوئه مع البطريرك الأوّل مار يوحنّا مارون مرورًا بالإمام موسى الصّدر والمفتي حسن خالد وحتّى اليوم. وذلك مع الملايين من العلمانيين الأحرار الذين طبعوا تاريخ لبنان القريب والبعيد بأفكارهم التي وصلت حدود العالميّة كالمفكّر اللّبناني شارل مالك.

ولقد تبدّلت الصّيغ الدّيموقراطيّة، على غناها، حيث عرفت أبرز الأشكال الآتية: السياسيّة الكلاسيكيّة، واللّيبراليّة، والمباشرة، والتّمثيليّة، والتّعبيريّة، والشّعبيّة، والاشتراكيّة، والموجّهة، والمركزيّة، والاجتماعيّة، والمسيحيّة، والنيابيّة، والتوافقيّة... وغيرها من الصيغ التي لا تتسع لها كبريات الكتب، وذلك لأنّها كنظام يواكب التّطوّر البشري ـــ المجتمعي بفئاته كلّها.

من هذا المنطلق، اعتمدت فلسفة الكيان اللّبناني على فكرة الدّيموقراطيّة التّوافقيّة، لأنّ المجتمع اللّبناني هو مكوّن من مجموعة شعوب؛ في محاولة من واضعي الدّستور اللّبناني لأن يجعلوا هذه الشّعوب شعبًا واحدًا. وعلى ما يبدو، بعد قرابة القرن على ولادة دولة لبنان الكبير، وواضعو دستورها في 23 أيّار من العام 1926 لم يتمكّنوا من الارتقاء به إلى درجة محاكاة الواقع المجتمعي اللّبناني، ليس لعدم رؤيتهم السياسيّة، إنّما لأنّ هذه الشّعوب اللّبنانيّة، حاول كلّ منها أن يطبّق الدّيموقراطيّة التي تخدم تطلّعاته الأيديولوجيّة.

وراحت أفواج الديموقراطيّة تتقاطر إلى لبنان وراء براقع مختلفة، لعلّ أبرزها الطّائفيّة والاثنيّة والمذهبيّة. وتلك الأشكال كلّها لم تستطع أن تنجح في تطبيق فلسفة الكيانيّة اللبنانيّة كما رآها آباء الجمهوريّة. وهذا مؤشّر بعلى أنّ المجتمع اللّبناني ـــ أو على الأقلّ جزء كبير منه ـــ لم يرقَ بعد إلى مستوى من النّضج يمكّنه من أن يتقبّل فكرة تطوير الدّيموقراطيّة. ولأنّ هذه الفئات هي التي تتحكّم بمفاصل الحكم في البلاد اليوم، قامت بحصر الدّيموقراطيّة اللّبنانيّة بشكل جديد لم يشهد له التّاريخ أي مثال.

من هذا المنطلق، شكّل تعطيل الدّيموقراطيّة صيغة جديدة من صيغ الدّيموقراطيّة التي ابتدعها هؤلاء. حتّى إنّنا نستطيع ان نسمّيها: "الديموقراطيّة التّعطيليّة، لأنّ ديموقراطيّة بيركليس العدديّة تصلح للمجتمعات المتجانسة، بينما التّوافقيّة تصلح للمجتمعات المركّبة. وما بين العدديّة والتّوافقيّة ابتدعوا التعطيليّة لتثبيت نفوذهم ولتمتين أواصر تحكّمهم بمفاصل الدّولة أكثر فأكثر، وذلك بعد فشل حكّام لبنان من تطوير هذه الدّيموقراطيّة التوافقيّة التي تجسّد مبدأ التمايز وتضحّي بمبدأ وحدة الدّولة. ويشرح الأب "جان دوكرويه" مضمون الدّيموقراطيّة التّوافقيّة بأنّها تفرض حكومة ذات ائتلاف عريض وفيتو متبادلاً حيال القرارات التي تتناقض مع المصالح الحيويّة لإحدى الجماعات.

وبما أنّ الغلبة في النّظام اللّبناني لمن يملك القوّة بالسلاح، تمّ تعطيل مبدأ الفيتوات المتبادلة والاستعاضة عن الدّيموقراطيّة التّوافقيّة بالدّيموقراطيّة التّعطيليّة. حتّى بات التّعطيل مفتاحاً من مفاتيح السيطرة. فمن يملك قدرة التّعطيل، يملك مفاتيح الحكم. وهذا الشكل الجديد من الديموقراطيّة الذي تفوّق به اللّبنانيّون على أفلطون نفسه، قد شلّ البلاد والعباد، وخلق فيها مساحات واسعة من عدم الاستقرار السياسي، وصلت إلى الحدّ الأمني؛ وهذا من أبرز مسبّبات عدم الاستقرار الاقتصادي.

خلاصة القول، ولأنّ حقيقتنا المجتمعيّة هي حقيقة طوائفيّة تعدّديّة، ولأنّ وحدتنا الوطنيّة تقوم على أساس مصالح فئاتنا المجتمعيّة الوجوديّة، يجب فرز نيّات صادقة ومواقف ثابتة وصامدة لجعل التلاقي حرًّا هادفًا إلى تلاحمٍ وجدانيٍّ عميق، عكس التلاحم السّطحي الموجود اليوم، للإرتقاء بفكرة العيش المشترك إلى مستوى المؤالفة، للوصول إلى وفاق وطني حقيقيّ من غير إلغاء الخصوصيّات الوجوديّة. بذلك فقط نكون قد خلقنا النّهج الوطني الذي نستطيع بناء لبنان الجديد على أساسه. ونستطيع أن نوائم بين الصيغة والنّظام.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم