الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

2020... أكرهكِ وسأدفنكِ إلى الأبد

المصدر: "النهار"
رين بوموسى
رين بوموسى
لحظات بثقل القسوة.
لحظات بثقل القسوة.
A+ A-
كنت قد قررت أن أدفن هذا العام، لم أرد أن أواجه. ما زلت خائفة وقلقة. الرعب يتملكني. 
أيام مرت وكأنها سنون. في هذه السنة زاد عمري أعمار.
عن عام 2020 ماذا أحكي؟ لعنة أيامك خنقتني، كادت أن تقتلني. كيف لي أن أصفك ولا كلمات تعبّر عن بشاعتك. كيف لي أن اصفك بعد كل ما مررنا به. هل عسانا نذكر الأزمة الاقتصادية أو هذا الفيروس اللعين الذي سجننا أشهراً في المنزل أم انفجار بيروت؟!
إلهي أهو عقاب؟ ماذا ذنبنا يا إلهي؟ أتساءل أحياناً لماذا كل هذه التجارب في سنة واحدة؟
 
 
هل لبنان واللبنانيون مقدر لهم كل هذا العذاب؟ هل مقدر لنا أن نموت مئة ألف ميتة في لحظة واحدة؟!
في هذه السنة المريرة كدت أن أخسر حياتي، ورافقني خوف في أن أخسر أحبائي.
لن اذكر كورونا وخوفنا، لن أتحدث عن قلقي الدائم من حرب مقبلة أو من مجاعة تطال لبنان أو أتحدّث عن يأسي وألا حلول حتى اليوم. 
لن أتحدث عن كل هذه الأمور، سأعود إلى ذلك اليوم المشؤوم، الى 4 آب.
لم نصدق اننا بدأنا في العودة إلى أعمالنا وحياتنا الطبيعية حتى انفجرت الأمور في وجهنا.
 
لا أحب أن تذكر هذا اليوم إذ رفضت أن أعود إليه، لم أرد المواجهة. قتلت احاسيسي. حتى اليوم أرفض النظر إلى هذا القلب كي لا أتذكر وأتألم من جديد. حتى المكان لم يعد يعنيني، قتلت حبي لبيروت، قتلت حبي لمكان عملي، مكاتب "النهار". قررت أن أصبح "روبوتاً" من دون أحاسيس، أدخل مبنى محطماً، اتجول في شوارع مدينة وكأن شيئاً لم يكن. جسد من دون قلب من دون أحاسيس. ما زلت خائفة، خائفة من المواجهة. 
 
كلا، لا أستطيع. من يعرفني قد يُفاجأ بهذه الكلمات فأبدو قوية، فأضحك، أبتسم، افرح، لا أتوقف عن تكرار تعبير "الحمدالله"، لكنني قتلت جزءاً مني لئلّا أخاف، لأبدو قوية أمامكم.
في ذلك اليوم كم أتذكر تفاصيل أريد ان انساها ولكن كيف لي أن أنسى تلك الأصوات، كيف؟
أصوات ما زلت أسمعها في رأسي. ليلة الميلاد، ليلة الغارات الإسرائيلية على سوريا، سمعت ذلك الصوت مجدداً لم أعد قادرة على التحرك، قلب ينبض خوفاً ورعباً: هل سيتكرر ما حصل في 4 آب؟
 
 
ماذا عن الصور التي لا تمسح من ذاكرتي. صور ليتها تمحى من رأسي. دخان "الانفجار النووي" على هيئة فطر عملاق. صورة اخي بدمائه. صورة امي التي رأت ولديها مدممين في يوم عيدها. لماذا كنت قاسية هكذا أيتها السنة وبلا قلب؟ قتلت احلامنا، قتلت كل شيء جميل فينا، دمرت ضحكتنا. أكرهك. كيف لي أن انسى صوت أبي اللاهث خوفاً: "انتو مناح... طلعوا دغري على سرحال".
 
أعتذر، لم أكن اريد المواجهة حتى إنني رفضت الكتابة. أعتذر على الصور المملوءة بالدم والمجبولة بالوجع.
لم أرد ان أتسبب لمن يقرأ بهذا الوجع ولكن اتخذت القرار سوف أواجه وأخبركم بتفاصيل ذلك اليوم.

ما أصعب أن تترجم وجعك بكلمات! سأعود الى يوم 3 آب، فرحتي كبيرة غداً سنطلق "النهار العربي"، وغداً سوف نحتفل بعيد ميلاد أمي وخالتي. توجهت إلى مبنى "النهار"، عملت حتى الساعة الثالثة بعد الظهر من ثم عدت إلى منزلي الكائن في منطقة مار بطرس كريم التين حيث هناك كل شيء هادئ. خلدت للنوم لأنني سأظل مستيقظة طوال الليل كي أجهز ليوم الانطلاقة. انه 4 أب اليوم المنتظر، خطتي كانت كالتالي:
أبقى في الجريدة حتى الثانية ظهراً أغادر متوجهة لاشتري هدية وقالب حلوى لكل من امي وخالتي من ثم إلى المنزل حيث كانت جدتي في انتظاري وأخي كي نحتفل جميعنا. 
 

عملت طوال الليل حتى صباح اليوم التالي. شعرت بتعب كبير الا انني لم أغادر، اذ طرأت مقابلة كان علي العمل عليها عند السادسة والنصف مساءً. حاولت أن اغمض عيني كي ارتاح وتناولت بعدها الغداء. عند الساعة السادسة، اخبرني الزميل موريس متى، الذي كان خارجاً، أن هناك حريقاً هائلاً في مرفأ بيروت. سمعت أصواتاً غريبة، توجهت الى مكتب الأستاذ سميح صعب ووقفت عند النافذة لارسال فيديو للزملاء لنشره. 
حملت هاتفي لم أستطع أن أضغط زرّ تشغيل الكاميرا واذ بأول انفجار. حاولت الهروب ظناً مني أن إسرائيل تقصف بيروت، لم أنجح شاهدت المشهد كاملاً، سحابات دخان زجاج يتطاير أمام عيني وصوت لا أستطيع وصفه وقوة هائلة دفعت بي لأقع على الأرض. هنا توقف بي الزمن وكأن ساعات مرّت على ما حصل. 
 
فتحت عيني بعد وقت، لم أكن قادرة على النهوض، سائل ينزل علي بشكل كثيف، دماء! أرى غباشاً. لأول مرّة أتحدّث مع نفسي "رين مش وقت يغط على قلبك قومي نبشي على خيّك". وقفت كالمجنونة، وإذ بالزميل يحيى يقف أمامي، لا أذكر ما قلت له. فاطمة تصرخ من بعيد، "رين شو صار". لم أكن قادرة على التكلّم. سأتركها تصرخ، المهم أنها بخير. أريد فقط أن أعثر على أخي. كيف أنزل الى الطبقة الخامسة نسيت، هل من سلالم. لحظات وكأنها دهر، هل خسرت أخي؟ أين أخي؟ صوت يبرّد الانفجار الذي بداخلي، صوت ايلي! عدت الى وعيي. من دون تفكير وكما بدا في فيديوات كاميرات المراقبة، سحبت بيدي المدممتين كلاً من الزملاء فاطمة، شربل ويحيى بعدما أخذت كلّ أغراضي عن مكتبي. وصلنا الى الطبقة الأرضية بعدما لحقنا ايلي (شقيقي) على السلالم. في الأسفل ساحة حرب. شابة لم أستطع مساعدتها لأنني لم أقوَ على رفعها بسبب يدي، لم أستسلم الا انني رأيت من أتى لمساعدتها فأكمت طريقي (أعتذر منك لم أقوَ على رفعك، اطمأننت عليك بعد أسابيع، شاهدتك على احدى شاشات التلفزة، عرفتك من قصتك). حتى إنني حاولت مساعدة شابة أثيوبية الجنسية كانت تبكي، ما ذنبها أيضا؟ 
 
 
شعرت بنفسي عاجزة لا أعرف ماذا أفعل حتى ان شقيقي أعطاني حزامه كي أربط يد الزميلة سلوى بعلبكي، لم أستطع، حتى انني لم أجدها. الفوضى أمامي، وفي رأسي. دراجات نارية في كل مكان أستجمع نفسي أطلب من أحدهم أن يقلنا الى أقرب مستشفى من دون جدوى. البعض يصورنا. لم أستطع كبت مشاعري "سبيتلن وسبيت للسياسيين ولاسرائيل ولكل حدا خطر على بالي". ايلي يسألني أين مفاتيح السيارة؟ ليست معي إنها على المكتب! مع نزيفه، صعد حتى الطبقة السادسة. انتظرته في الأسفل، أبي يتصل كل دقيقة، يقول لي اتصلي بخالتك هدى كي تطمئني والدتك هي برفقتها" (لا سيما أن بعض الخطوط الهاتفية انقطع). أرفع الهاتف وأتصل بخالتي الثانية زينة. رأسي لا يعمل كل شيء توقف. وصل ايلي مع المفتاح. 
حتى نصل الى الطبقة الرابعة تحت الأرض، معاناة أخرى. الانفجار لم يبقِ باباً على حالته الطبيعية. لا أدري كيف استطاع أخي ازاحة كل هذه الألواح والأبواب المخلعة. "الحمدالله السيارة ما بها شي". وصلنا بالسيارة الى الطبقة الأرضية، كل شخص التقيت به أسأله "انت منيح بدك تروح على المستشفى نحنا رايحين". واذ بالزميلة مروى تقف عاجزة لم يصبها أذى قلت لها ان ترافقنا، الأستاذ نبيل بومنصف مصاب أيضاً برجله، "في حدا جايي ياخدني".
 

الرحلة من بيروت إلى مستشفى سرحال
في سيارتي الصغيرة استطعنا الوصول الى مستشفى سرحال بصعوبة. سيارتي الصغيرة جداً كانت أشبه بسيارة رباعية الدفع، "تتسلق" الزجاج والنوافذ والأشياء التي خلّفها الانفجار. في داخل تلك السيارة انفجار من نوع آخر، الهواتف لا تهدأ، حتى اليوم لا اذكر من اتصل بي وبأخي، لا أبكي "أنوح من دون دمعة واحدة". تارةً مروى تبكي، وتارة ايلي يبكي "ما بدي أمي تشوفني هيك". دماء ايلي تسيل وأنا خائفة بشكل كبير عليه يا رب ساعدنا حتى نصل. 
 
من كنيسة مار مارون في الجميزة حتى الحكمة في الأشرفية "عكس السير" الدماء على وجوهنا ساعدتنا حتى نصل بشكل أسرع (ساعة ونصف الساعة) الى المستشفى حيث الصدمة. 
 
 
لم نكن نعلم! الانفجار دمّر كل بيروت والجرحى من كل مكان. 
لن أدخل في تفاصيل أكثر، ولكن الأكيد أن حياتنا قبل الانفجار ليس كما بعده. جروح بليغة لأخي في الرأس. أما أنا فمنعت من تحريك يدي لأكثر من شهر ونصف الشهر، واضطررت لاجراء عملية جراحية لاستخراج الزجاج من يدي اليمنى، ناهيك بألم العلاج الفزيائي. 
 
منذ الحادثة حتى اليوم ما زلت أخجل من أن أقول كلمة "آخ" أمام وجع الآخرين الجسدي والنفسي. لكنني، كما سبق وقلت لكم أريد المواجهة، والمهم أنني وأخي بخير الى جانب والداي. 
 
الا أن هذه السنة لم تكتفِ، فلعنة كورونا حلّت علينا. أبي الذي يعاني مرض السكري، أمي من حساسية مفرطة، خالتي، أخي وأنا جميعنا اصبنا. الخوف رافقني طوال 25 يوما. أمي التي كانت يدي في الفترة الأولى بعد التفجير وبعد العملية الجراحية، كيف لي أن أحميها بعدما تحكم الفيروس منها ومن نسبة الأوكسيجين في جسمها. كيف لي أن احمي والدي من غدر هذا الفيروس. ماذا عن اخي وخالتي. 25 يوما من دون نوم رغم الألم الكبير في جسمي. 25 يوما من الخوف، أسأل الجميع فردا فردا "حاسس بشي، انت منيح؟". "اعطني يدك كي افحص نسبة الأوكسيجين"، اوكسيجين حرارة دواء… امي حالتها سيئة ماذا نفعل أتصل بالطبيب. ايام من الجحيم عندنا ترى والدتك تختنق أمامك، عندما ترى والدك يشعر بتعب شديد ويحاول أن يبدو بخير "كرمالنا" أو أن تدخل غرفة شقيقك كل نصف ساعة لتتأكد انه يتنفس أو أن ترى خالتك غير قادرة على التحرك من وجع رأسها المميت. 
 
آخ، ماذا تريدين بعد منا يا أيتها السنة، ألم يكفك كل هذا الألم الذي تسببت لنا به. ارحلي بمصائبك، ارحلي من دون أي رجعة فلا أريد أن اتذكرك. أمقتُك. 
لكن، وعلى الرغم من كل شيء، أشكر الرب، وفي كل لحظة، أن أحبائي ما زالوا موجودين حولي. وان أصدقائي وأقاربي بخير، والذين أشكرهم فرداً فرداً لوجودهم في حياتي. لم يتركوني، لولاكم لما كان هناك أي شيء إيجابي في هذه السنة. لحظاتي الحلوة سأحملها معي، أما بشاعة هذه السنة فسأحاول دفنها.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم