السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

الموسم المطريّ في لبنان 2020- 2021: قمّة التطرّف المناخيّ خلال فصلَي الخريف والشتاء!

المصدر: "النهار"
الطقس المسيطر على لبنان اليوم (حسام شبارو).
الطقس المسيطر على لبنان اليوم (حسام شبارو).
A+ A-
الدكتور جورج كرم
متخصص في علم المناخ
 
 
بدأ لبنان، الذي غالباً ما تميّز باعتدال مناخه، يشهد في السنوات الأخيرة الكثيرَ من الظواهر الجويّة والمناخيّة المتطرّفة؛ وقد بدا ذلك واضحًا خلال خريف وشتاء 2020-2021: منظومات جويّة سيّئة، حالات عدم استقرار قويّة، هطولات برديّة عنيفة، حالات مطريّة متباعدة وغزيرة، فترات جفاف دافئة وطويلة ودرجات حرارة متطرّفة من حيث الارتفاع والانخفاض... فماذا في التفاصيل والأسباب؟

بعد صيف حارّ ألهب اللبنانيّين بموجات حرّ قياسيّة، بدأ فصل الخريف في 23 أيلول بطقس معتدل، سرعان ما تحوّل إلى صيفيّ حارّ، إذ استمرّ طوال شهر تشرين الأوّل وسْط غياب تامّ للأمطار. الجفاف ليس بغريب في الحقيقة عن هذا الشهر، فبمجرّد النظر إلى الأرشيف المناخيّ، يتبيّن لنا وجود العديد من السنوات المشابهة. لكنّ غيرَ الطبيعيّ هو أنّ هذا العام ترافق الجفاف مع درجات حرارة فاقت معدّلاتها الموسميّة بصورة غير مقبولة (الشكل 1). يكمن السببُ الرئيسُ وراء هذا الارتفاع في تمدّد الكتل الحارّة المرافقة للمنخفض الهنديّ الموسميّ بشكل كبير نحو منطقتنا، لتعقبها، إثر تراجعها، كتلٌ حارّة أخرى مرافقة لنشاط المرتفعات المداريّة.
 
 
انكسرت حدّة الجفاف مع دخول شهر تشرين الثاني. لكنّ الاضطرابات الجويّةَ اقتصرت، خلاله وحتى السابع من كانون الأوّل، على حالات عدم الاستقرار، مع غياب تامّ للمنخفضات الجويّة.

هذه الحالات المطريّة، التي تتميّز بفاعليّتها العشوائيّة والمتفاوتة بين المناطق، كانت تتشكّل نتيجة التقاء الرطوبة المداريّة - التي كان يضخّها منخفض البحر الأحمر من الجنوب - مع الأحواض الباردة الآتية من الشمال والموجودة في طبقات الجوّ العليا في شرقي المتوسط.

هذه المنظومة الجوّيّة التي سادت لأكثر من شهر، بدا واضحًا خلالها التطرّف المناخيّ؛ فقد أدّت إلى تشكّل السحب الرعديّة العملاقة من نوع "سوبر سيل supercell" لعدّة مرّات، وفي مناطق مختلفة من البلاد، ممّا أدى إلى تشكّل السيول والفيضانات وتراكم طبقات سميكة من البرَد، ولعلّ أبرزها كانت برديّة بيروت التاريخيّة يوم 5 كانون الأوّل، أو تلجة بيروت كما يحلو للبيارتة تسميتها. وعلى إثر عبور سريع لأوّل منخفض جويّ كلاسيكيّ العناصر لهذا الموسم في الثامن من شهر كانون الأوّل، تفكّكت المنظومة الجويّة السابقة، ودخلت البلادُ من بعدها مرحلةً جديدةً امتدّت تقريبًا حتى آواخر فصل الخريف، تخلّلها عبورُ منخفضات جويّة ماطرة، وثلوج متراكمة فوق 2000 متر.
 
(تصوير حسام شبارو)

مرحلة جديدة من التطرّف المناخيّ بدأت بحلول فصل الشتاء. فبعد بضعة أيّام رطبة (بين 21 و24 كانون الأوّل)، دخلت البلادُ ومعها الحوضُ الشرقيُّ للبحر المتوسّط فترةَ إستقرارٍ جويّ تامٍّ؛ فسيطر الجفاف لمدّة طويلة نسبيًّا امتدّت من الأسبوع الأخير من كانون الأوّل حتّى 13 كانون الثاني. هذه الفترة الجافة نتجت من منظومة جوّيّة سيّئة بدأت مع المرتفع السيبيريّ، الذي تمركز فوق غربي روسيا وشرقي أوروبا بقيم ضغط مرتفعة جدًا، مشكّلًا حاجزًا في وجه تقدّم المنخفضات الجوّيّة بسبب تمدّد أطرافه نحو شرقي المتوسط. عقب تراجعه، تمدّدت نحو منطقتنا كتلٌ مداريّة جافّة ودافئة نتيجة تمركز مرتفع مداريّ بقيم ضغط كبيرة وسط الصحراء الأفريقيّة الكبرى، إذ أدّت إلى استمرار موجة الجفاف في البلاد، مع تراجع المرتفع الآزوري نحو شمالي أفريقيا وسيطرة العواصف والمنخفضات الأطلسية على غربي أوروبا بقيم ضغط منخفضة جدًّا وثباتها لمدّة طويلة. في خلال هذه الفترة، سيطر طقس ربيعيّ دافئ نهارًا، مع درجات حرارة فاقت معدلاتها الموسميّة وبخاصّة في النصف الأوّل من شهر كانون الثاني، كما غاب الغطاء الثلجيّ بشكل شبه تامّ عن مرتفعات سلسلتي جبال لبنان الغربيّة والشرقيّة، كما يظهر في الصورة المرفقة المأخوذة من الفضاء بتاريخ 12 كانون الثاني 2021، عبر القمر الإصطناعيّ التابع لوكالة الفضاء الأميركية "الناسا".
 
 
في الوقت الذي كانت فيه موجة الجفاف تضرب مناطقَ شرقي المتوسّط، بدأت نماذج الطقس العالميّة تشير إلى تعرّض الطبقة الثانية من الغلاف الجوّيّ "الستراتوسفير" على إرتفاع يقارب 30 كم وبالتحديد حول دائرة العرض 65 شمالًا، إلى إرتفاع سريع وكبير في درجات الحرارة بمقدار حوالى 50 درجة مئويّة. هذه الظاهرة التي تُعرف "بالاحترار الستراتوسفيريّ" تؤدّي إلى تحرّك الكُتل الهوائيّة القطبيّة نحو مناطق واسعة من العروض الوسطى ومن ضمنها لبنان. وبالفعل، هذا ما حصل...!! طرأ إنقلاب شتويّ حادّ بِدءًا من منتصف كانون الثاني، حيث بدأت سلسلة من المنخفضات الكانونيّة المترافقة مع جبهات هوائيّة قطبيّة بالتأثير في البلاد؛ فانخفضت درجات الحرارة بشكل كبير مقارنة بالنصف الأوّل من الشهر (الشكل 2)، وانتقلنا من أجواء ربيعيّة لنعيش أجواء من قلب الشتاء في فترة قصيرة وسريعة. كما سجّلت الأمطار على إثرها، في خلال فترةٍ امتدّت من 15 حتّى 22 كانون الثاني، معدلاتٍ قياسيّةً، سواءٌ في المنطقة الساحليّة أو الداخليّة منها (تجاوزت 120 ملم على الساحل الجنوبي- صور، 170 ملم في البقاع الأوسط - تل العمارة، 300 ملم البقاع الغربي - خربة قنافار)، ولامست الثلوجُ التراكميّة المناطقَ الواقعة فوق 1000متر. والجدير ذكره، أنّ تساقط الأمطار بهذا الشكل، والذي أصبح يتكرّر كثيرًا في السنوات الأخيرة، لا يساعد في تسربها الى الطبقات الجوفية، وتالياً يذهب القسم الأكبر منها هدرًا، هذا فضلًا لما تسببه من انجراف في التربة.
 
(تصوير حسام شبارو)
 
بالطقس المستقرّ افتتح شباط أيّامَه الأولى. وبعد تأثّرنا بأطراف حالة عدم استقرار في اليومَين الثالث والرابع منه، حملت معها بعض الأمطار إنّما بسمات ربيعيّة، عادت المرتفعات الجوّيّة المداريّة لتبسط سيطرتها على الحوض الشرقي للبحر المتوسّط، حاملة معها "سيناريواً" مشابهًا لما حصل في النصف الأوّل من شهر كانون الثاني. فسيطرت مجدّدًا الأجواءُ الربيعيّة، وساد الجفاف حتّى منتصف الشهر، ليتحوّل الطقس من بعده، وبشكل جذريّ، من مستقرّ ودافئ إلى عاصف وبارد، وذلك نتيجةَ تدفّق كُتل هوائيّة قطبيّة نحو منطقتنا. فانخفضت درجات الحرارة بشكل حادّ (الشكل 2) وتعرّضت البلاد، على إثرها في 17 شباط، إلى عاصفة ثلجيّة استمرّت ثلاثة أيّام. غطّت الموجة القطبيّة الباردة المرافقة للعاصفة مساحةً جغرافيّة كبيرة، شملت بالإضافة إلى لبنان، كُلًّا من فلسطين، سوريا، الأردن، العراق، شمالي مصر والسعوديّة. كما تدنّت مستويات تساقط الثلوج خلالها إلى ارتفاعات متدنّية (حوالى 500 متر) وذلك بعد غياب دام لسِتِّ سنواتٍ، و بدلًا من أن تبشّر أشجار اللوز، التي ازهرت قبل أوانها، بقدوم الربيع، فقد اكتست ثلوجًا شتويّةً بامتياز.
 
 
بعد العاصفة الثلجيّة، لم يغب التطرّفُ المناخيّ عن الأسابيع الأخيرة من فصل الشتاء الّذي ينتهي في 20 آذار، إذ عشنا خلالها أجواءَ الفصول الأربعة من دون منازع. ولعلّ أبرز ما حصل خلال هذه الفترة، تأثر البلاد في بداية الأسبوع الثاني من شهر آذار، بمنخفض جويّ خماسيني مبكر لمثل هذا الوقت من العام، حمل معه رياحًا دافئة ومُغبرّة، فارتفعت على إثرها درجاتُ الحرارة بشكل سريع في 10 آذار، حيث لامست القصوى منها 26 درجة مئويّة في المنطقة الساحليّة، لتعودَ وتنخفضَ بشكل سريع في اليوم التالي مع عبور جبهة هوائيّة باردة.

أخيرًا، لا نستطيع تفسير ما حصل من تطرّف مناخيّ خلال خريف وشتاء 2020- 2021 بالاستناد إلى ظاهرة مناخيّة واحدة شكّلت سببًا مباشرًا ورئيسًا. فبالدرجة الأولى، وفي ظلّ التغيّر المناخيّ العالميّ، كلُّ الحالات الجويّة المتطرّفة أصبحت متوقّعة، وخصوصًا أنّ الكثير من التقارير والدراسات، ومن بينها تلك العائدة للجنة الحكوميّة الدوليّة لشؤون تغيّر المناخ IPCC، قد أشارت إلى أنّ منطقة الشرق الأوسط هي من أكثر المناطق حول العالم عرضةً للتطرّف المناخيّ ولتغيّر أنماط الطقس (أمطار أكثر غزارة وبكميّات أقلّ، فترات جفاف أطول، درجات حرارة أعلى وتراجع في سماكة الغطاء الثلجيّ...).
 
(تصوير حسام شبارو)
 
وبالعودة إلى الظواهر المناخيّة المؤثّرة في طقس دول الحوض الشرقي للمتوسط، لا يمكننا تجاهلُ ظاهرة "اللانينا" التي حدثت في خلال هذا الموسم. إذ عادةً ما تتجلّى تأثيراتُها في دول المنطقة بتأخّر أمطار الخريف وبوجود فترات جافّة ودافئة تؤدّي إلى تقطّع وتباعد بين الحالات المطريّة، التي غالبًا ما تكون غزيرة. فهذه الظاهرة من خلال تبريدها لسطح المياه في وسط وشرقي المحيط الهادئ الإستوائيّ يكون لها ارتباط وثيق بدورة الغلاف الجويّ، وبالتالي بتوزيع الضغوط الجويّة حول العالم، التي كان لها تأثير واضح، كما رأينا، في طقس لبنان خلال هذا الموسم المطريّ. هذه الظاهرة ليست المؤثّر الوحيد في مناخنا، فكما سبقَ وأشرنا أنّه قد كان للإحترار الستراتوسفيري الذي بدأ مع حلول فصل الشتاء دورٌ مهمٌّ في تغيّر أحوال الطقس بعد منتصف كانون الثاني. يضاف إلى ذلك العديدُ من الظواهر الأخرى التي لم نتطرّق إليها في تقريرنا، كظاهرة الخفوت الشمسيّ التي بدأت مؤخّرًا، ومعاملَي تذبذب شمال المحيط الأطلسيّ (NAO) والقطب الشمالي (AO) اللذين لهما دور مهمّ أحيانًا في تبدّل طقس دول حوض المتوسّط.

إذًا، قد كانت بدايةً متطرّفةً للموسم المطريّ 2020-2021...!! فهل سيكمل التطرّف المناخيّ في خلال ما تبقّى من هذا الموسم؟ وكيف سيكون فصلا الربيع والصيف؟ وهل سنشهَدُ تطرُّفًا مماثِلًا أو أكثر حدّةً في المواسم المقبلة؟ كما يبقى السؤال الأبرز هنا على المدى القريب متمحوِرًا حول إمكانيّة وصول كمّيّة الأمطار المتساقطة خلال هذا الموسم المطري إلى معدّلها السنويّ.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم