الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"نحييها بمشيئة الله"... صيّادو طرابلس يرمّمون المراكب بأيديهم والبحر نجاتهم الوحيدة (صور)

المصدر: "النهار"
جودي الأسمر
جودي الأسمر
الصّيّاد محي الدّين الشّامي يرمّم مركبه. (تصوير إسبر ملحم)
الصّيّاد محي الدّين الشّامي يرمّم مركبه. (تصوير إسبر ملحم)
A+ A-

يقف محي الدين الشامي (44 سنة)، الصياد وأب لثلاثة أولاد، في خيمة هشّة نصبها من بقايا الخشب وصفائح الحديد والنايلون، على بقعة خلفية من رصيف ميناء طرابلس. على صوت مذياع يبث نشرة أخبار الصباح، يتابع إصلاح مروحة مركبه، الذي تصدّع بعد ثلاثة عقود من الإبحار.

يقول: "كنت أسرح في هذه الفلوكة وأقصد الله، إلى أن تعبَت. لم أستبدلها بفلوكة أخرى لأنني لا أملك المال لاستئجار أو شراء بديل، فقررت أن أرمّم فلوكتي بيديّ. وقد يستغرق العمل شهرين بمساعدة النّجّار".

محي الدّين الشّامي هو عيّنة من عشرات الصيّادين في ميناء طرابلس، يطوّرون اليوم مهارات في ترميم المراكب، بسبب غليان أسعار الخشب، ممّا دفعهم للانخراط في عملية التصليح، لتوفير تكاليفها. خلف مجموعة قوارب وبقايا بعضهاعلى الكورنيش الواسع عند بوابة الميناء، بجوار قصر الرئيس ميقاتي، يشكّل الصّيادون عالمًا موازيًا من الصعب أن تلتقطه الأنظار، إلّا أنّه يضجّ بقصص تزاوج بين المعاناة وجهود هؤلاء الرجال لتلطيفها، من اللحم الحيّ.

 
(تصوير إسبر ملحم)
 
 
 
(تصوير إسبر ملحم)

(تصوير إسبر ملحم)

ديون وبطالة

كان عمر محي الدين 10 سنوات حين خاوى البحر وبدأ مزاولة الصيد. ثم استحصل على تذكرة بحرية في عام 1995. يعرف تأثير البحر، ولديه إلمام بالتفاصيل التقنية الّتي تعينه في مهمته المستجدة "بمرور الوقت، الملح يفني الخشب. هذه المروحة التي أحاول إصلاحها، تمتلىء بالكهرباء بسبب دوران الموتير وتيارات البحر، وفعل الملح فعله في تجوريها."

ثم ينتقل الى  الفلوكة الّتي برز هيكلها العاري كقفص صدري "لديها أضلع مثل بني آدم. أسميتها "صبحيّة" على كنية عمّة أبي، ولأنّني أحبّ الإبحار بها صباحًا".

بعد حرقه الخشب بـ"الشليمون" لإزالة اللون القديم، يمسك بـ"الراشبة" لتهذيب الزوائد، ويمرّر "البرداغة" على الخشب لتنعيمه. يتخلل انهماكه ابتسامة وهّاجة على وجه أسمر لوّحته الشّمس: "لم أعمل منذ 12 يومًا لانشغالي في التصليح. في العادة، أبدأ الصيد عند الثالثة صباحًا، ثم أبيع السمك فورًا على الشاطىء أو لدى مسمكة أنّوس".

اليوم، يسرح أولاد محي الدين في البحر، يبحثون عن طريدة على شكل سمكة مع عمّ أبيهم. هذا الأخير استدان من أكبرهم، ويدعى محمد (20 سنة)، مبلغًا يعينه مع مساهمات الأقارب في تسديد تكاليف الترميم بقيمة 10 ملايين ليرة على الأقل. يستنتج الصياد "مال البحر للبحر فقط".

ويشغل القسم الأكبر من هذا المبلغ تكاليف خشب السرو. استعاض به عن الموغانو، وهو المثالي للقوارب لكن الغلاء يجبره بصرف النظر عنه.

يساعد محي الدين إرادته الشخصية والمقربون فقط، "لا رؤساء ولا وزراء ولا نقابة. ضيعانه لبنان. لم أعد أفكر بكورونا. الوباء من الله، لكن أوضاعنا في لبنان صنع يدينا".


(تصوير إسبر ملحم)

(تصوير إسبر ملحم)

 

 حرمان من الوظيفة

يوافق العمّ سمير الشّامي، مضيفًا: "كلّ المسؤولين تبرؤوا منّا...".
بنظره، الصّيّاد هو أفقر العاملين: "نركب الموج بعد منتصف الليل، وقد نعود أدراجنا مع غلة بالكاد توفر ثمن المازوت. نضيف اليوم ثمن الشبك، الذي قفز سعره من 15 ألف الى 150 ألف ليرة. ونحن بحاجة مستمرة لتبديل الشبك، لأنّ أوساخ نهر أبو علي تصبّ في البحر، فتلفّ على الشبك ومروحة المركب، وتعيق عملنا."

(تصوير إسبر ملحم)

 
هذه الأيام، يعاني الموسم كسادًا، لأنّها "فترة تكاثر بذور السمك، وقتلها بالديناميت جريمة. يستمر هذا الجمود لغاية آخر أيار، وليس لدى الصياد مورد رزق آخر."

ترقى علاقة سمير الشّامي بالبحر الى 53 سنة. صياد في البداية، ثمّ موظّف في شركة "هيدرومار".

 يشير باصبعه الى "السلسول" البعيد الذي شارك في تطويله، لتأمين مراسي للبواخر في مرفأ طرابلس. كما شارك في أعمال تأهيل مرفأ بيروت قبل انفجاره، لأنه أجبر في آذار 2020 مع عدد من الزملاء على ترك الوظيفة، بعد 15 سنة من مزاولتها، بسبب الأزمة المعيشية التي قلّصت الموظفين "أصعب اللحظات حين يطلب مني ابني شراء غرض لا أملك ثمنه. تمكنت من شراء شقة من جنى عمري، لكنني لا أملك المال لتطويبها".

(تصوير إسبر ملحم)

"أين أذهب؟"

في هذه الأثناء، يتعالى الضجيج رويدًا رويدًا من مقهى "إستراحة صيادي الأسماك"، على بعد أمتار نحو الداخل. الرواد وأكثرهم من الصيادين، يتقسطون راحتين: راحة طوعيّة وأخرى قسريّة، حيث يبدو من الصّعب التمييز بين من أتى يرتاح من تعب الصّيد أو تعب البطالة.
بقربهم مسنّ ملتحٍ، نهتدي إليه من صوت الحفّ. يغرق العجوز في حوض فلوكة مهترئة، محاولًا ترميمها، ويقول: "هذه الفلوكة عجوز أكثر منّي. يلزمها نحو 40 مليون ليرة للترميم"، يضحك، ثم يستغرق مجدداً في عمله.

(تصوير إسبر ملحم)

 جاره أحمد علم الدّين، أقام من كوخ مرتجلة وطاولة، ورشته التي عاد إليها، حين توقف العمل في نادي اليخوت في الكسليك بسبب أعمال الصيانة.  

 يعتبر أنّ فلوكته "تحفة"، ينظر إليها بإعجاب: "أقوم بإعادة إحيائها. الرب يقول: نحيي العظام وهي رميم. نحن نحييها ولكن بمشيئة الله. هذا المركب عمره 40 سنة، سأعاود بناءه ليصبح ابن سنة".

الأب لسبعة أولاد لم يتعلم القراءة والكتابة، لكنه يتقن عمله "كالمهندس الذي يرسم مبنى. هناك خرائط مرسومة قبل الانتقال لتنفيذ الرسمة"، حيث اكتسب من معلّمه أبو علي ياسين، كيفية رسم السّفينة وضرب قياس الورقة بعشرة أضعاف. يشرح أنّ لكل ضلع قياسًا مختلفًا، ولا يستطيع استبدال قطعة بأخرى. وكثيرًا ما نقل مغامرته من البحر الى الجبل، يفتش عن حطبة عوجاء يركبها بدون تقويم، فيصنع من المركب تحفة طبيعية.



(تصوير إسبر ملحم)

 عن تحديات المصلحة، يقول "عملي يؤمن قوت يومنا فقط، والأمر ليس بهذا السوء. لكن الأسوأ أنني أبحث عن مكان ثابت لأزاول حرفتي. تحاول قوى الأمن من حين لآخر اقتلاعي من مكاني، علمًا أنّ هذا المجال للصيادين. طيب، أين أذهب؟"

وفيما يبدو أنّ نقابة صيادي الأسماك في الشمال، حاولت مؤخرًا الضّغط لدى المحافظ للسماح للمسامك بفتح أبوابها لغاية الخامسة مساءً، يتجلّى أنّ أزمة الصّيّاد في طرابلس هي أعمق بأشواط بعيدة.



(تصوير إسبر ملحم)

من ناحية أخرى، يسجّل شاطىء طرابلس لهؤلاء الصّيادين بصمة خاصة في سرديّة المراكب. من مراكب استخدمت للتجارة في زمن الكنعانيين، الى "المروكبي"، وهو الليمون الحامض الذي تقلّه مراكب طرابلس وتوشّح بلهجتها، وصولاً إلى "قوارب الموت" التي يتكاثر فرارها من الفقر والحرمان، يرمّم هؤلاء الصيادون القوارب لينجوا بحبّهم للحياة. صبر الصياد عتيق كميناء طرابلس، وهي أعتق من الامتداد المملوكي. متمرسون في الصمود، يتعاون صيّادو طرابلس لنفخ الروح في مهنة على شفير الهلاك.

(تصوير إسبر ملحم)


(تصوير إسبر ملحم)


(تصوير إسبر ملحم)

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم