الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

تمرُّدُ العشبة وواجبُ الاعتذار

المصدر: "النهار"
عقل العويط
عقل العويط
 عشبةٌ خضراءُ، فتيّةٌ، لكنْ مكابِرة وجريئة، على حائطٍ حجريٍّ
عشبةٌ خضراءُ، فتيّةٌ، لكنْ مكابِرة وجريئة، على حائطٍ حجريٍّ
A+ A-
عبرتُ الشوارع القريبةَ من جامعة القدّيس يوسف، منطقة هوفلان، هذا الصباح، صحبة كوبر. 
كان لا بدّ لي من أنْ أفعل ذلك، لا كسرًا لقرار الإقفال العامّ، بل لأسبابٍ "عملانيّة" تتعلّق بصديقي الأليف، وتتّصل بلزوم ما يلزم.
استوقفتْني في مشيتي المدوزنة على إيقاعات صديقي كوبر، عشبةٌ خضراءُ، فتيّةٌ، لكنْ مكابِرة وجريئة، على حائطٍ حجريٍّ، في "فيكتور هوغو" على الأرجح، ربّما في "مونو"، أو أيضًا في "جرجي زيدان". لم أعد أذكر تمامًا. 
التقطتُ لتلك العشبة، صورةً فوتوغرافيّةً بهاتفي النقّال، توثيقًا للأمثولة؛ أمثولة الأخضر الذي يفاجئ كلَّ يباسٍ يائس، ويتحدّى الجمادَ والصممَ، ليصنع لنفسه، في اللّاشيء، من اللّاشيء، ومن العدم، حياةً قابلةً للعيش، على رغم الحياة، حياتنا، غير القابلة للاحتمال.
أكبرتُ تلك العشبةَ المتواضعةَ إكبارًا جليلًا، وهي جَعَلَتْني أكثرَ امتلاءً بالحياةِ نفسها، وأعمقَ أملًا وحلمًا، بإمكان اختراق الجدران المسدودة في وجه لبنان. 
كان ينبغي لي أنّ أكرّس هذا المقال بكامله لها - للعشبة، من أجل أنْ يدرك كلُّ مهتمّةٍ ومهتمّ، أنّ اجتراحَ الحياة ليس عملًا سهلًا وميسورًا، بل هو صناعةٌ شاقّةٌ وعصيّةٌ ومستديمةٌ، وإنْ بدتْ في بعض الأحيان مستحيلة، كما هي حالنا – الآن وهنا – مع حياتنا اللبنانيّة.
قلتُ إنّه كان ينبغي لي انْ أكرّس المقال برمّته لتأجيج هذه الأمثولة، وجعلها بمثابة جمرةٍ حارقة، في هذا الليل اللبنانيّ الجهنّميّ العميم. لكنّ صديقي كوبر "فعلها" معي، وسَوَّدَ وجهي، فكان لا بدّ لي من أن أروي الحكاية.
على التقاطع بين "فيكتور هوغو" و"رشَيد الدحداح"، قضى كوبر حاجته "الكبيرة"، ففعلتُ اللازم، جريًا على عادتي، وتأكيدًا لما تقوله عنّي ابنةُ مؤسّس "الندوة اللبنانيّة" في هذا الصدد، من أنّي قد أكون الوحيد في الحيّ الذي ينظّف "فعائل" حيوانه الأليف.
لكنّ الحكاية ليست هنا. بل في التتمّة. عندما وصلتُ إلى خاتمة شارع "كليّة الآباء اليسوعيّين"، من الزاوية المطلّة على "لبنان"، جرّني كوبر جرًّا قاسيًا، منتحيًا موضعًا مناسبًا له، ليقضي – عجبًا - حاجته "الكبيرة" للمرّة الثانية على التوالي، وليجعلني مكشوفًا على السهام التي لا ترحم، ويجب أنْ لا ترحم، وإنْ تكن سهامًا "لائقةً" و"مهذّبة".
لم يكن بين يديَّ ما أنظّف به "فعلة" حيواني الأليف الثانية، فأكملتُ طريقي. لكن هيهات. إذ سمعتُ صوتًا نسائيًّا يناديني باسمي، "أستاذ عويط"، أو "مسيو عويط"، لم أعد أذكر. صبّحتني السيّدة الكيوانيّة بالخير طبعًا، وأردفتْ أنّها كانت تتوقّع من "الآخرين" مثل هذا "الفعل" (الشنيع طبعًا)، لكنْ ليس منّي. وتداركتْ لومها المُحِقّ، بالإعراب عن احترامها لكتاباتي، وإنْ لم تكن موافقةً على بعض مضامينها "الجارحة".
"أكلتُ الضرب" طبعًا، وأحسستُ أنّي ارتكبتُ ما يجب عدم ارتكابه، وإنْ قد أكون ربّما – وعمليًّا – معذورًا بسبب فعلة كوبر المتكرّرة غير المتوقّعة. في العادة، أحمل معي كيسًا لتنظيف الفضلات، لكن ليس أكثر.
كان لا بدّ من حديث. شربتُ القهوة، في الشارع، من يد صاحبَي المكان، واستذكرنا ثلاثتنا ما يجمعنا من جمٍّ وكثيف: "النهار"، زميلنا الحبيب سمير عطالله، وكاتبنا الرشماوي الراحل الكبير فؤاد كنعان.
قبل أن أغادر، أعطتني السيّدة ما أنظّف به فضلات كوبر، ففعلتُ بطيبة خاطر، وباعتذارٍ عظيم. 
بلا طول سيرة، لم يكن في بالي أنْ أكتب إلّا عن العشبة المناضلة، المكافحة، التي تحدّت الحجرَ الأصمّ المعمِّر، لتقول للبنانيّات واللبنانيّين ما يجب أنْ يفعلوه بالحجر الثقيل الأصمّ والفاقد الحياة، الذي يربض على صدر بلادنا.
عندما أتممتُ واجب التنظيف، رأيتُني أبادر بالعودة الطوعيّة والعفويّة إلى السيّدة "المعلّمة"، كتلميذٍ "شاطر"، واعدًا إيّاها بهذا الجزء الثاني من المقال الذي يروي وقائع الصبحيّة، وواجب الاعتذار العلنيّ. وهذا ما أنا فاعلُهُ. والسلام.
 
 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم