النبيل جان عبيد... أفدح الخسائر

فاض الحزن صباحاً، وأغرق النفس بشلالات لئيمة. أسبوعان وما يزيد، أمضاهما جان عبيد في المستشفى يصارع الأنفاس الأخيرة، إلى أن خرج خبر الرحيل مُرَّاً، كالخسائر العصيّة على العَوض. يفترس الوباء القامة، كافتراس سرب الحشرات المُضرّ السروة، مُسقطاً إياها إلى حيث أبدية التربة، لكنّها تبقى السروة العالية وإن خانها الهواء العليل. الأعمدة قدرها الوقوف العنيد في الواجهة، ساندةً الجدران لئلا تتهاوى، ولبنان الممزّقة أشرعته، الملعونة مراكبه، يخسر العمود والقامة والارتفاع البشريّ.
 
لم يكن شأن نفسه فقط، بل هو شأن جماعيّ، وطنيّ، أخلاقيّ، ممتدّ نحو الجميع، محبوب من الكلّ، أهلٌ للاحترام. وأهلُ الاحترام اليوم قلّة، في السياسة تحديداً، لفجور الأزلام وسقطاتهم. جَمَع، ووجهات النظر تُفرّق والتجارب تُسقِط الأقنعة؛ فكان في ذروة الابتذالات، يوزّعُ الابتسامات، وفي أبشع الاصطفافات، يحاول بناء الجسور. مراراً، من مكتبه في سنّ الفيل، قرأ وتابعَ، وعلّق، وأعطى كلّاً حقّه، في النصيحة والتشجيع. تعالى عما يخدع النفس بحُكم المركز والعلاقات، من تكبُّر وقرصات غرور، وجرّدها من احتكار الإعجاب إلا بالذات، فكانت له نفسٌ مهذّبة بالجمال، متواضعة، عميقة الثقافة، وواسعة الأفق. لم يحل كونه عريقاً، من المبادرة تجاه مَن يحبّ بذريعة المكانة والنيابة والمظهر الاجتماعي، بل ظلَّ يُقدِم، ويُهاتِف، ويُناقش في السياسة والقضايا والأدب والفنّ والشعر، حتى دراما التلفزيون وبطلاتها كمنى واصف، حيث أُعجب بـ"الشاشة" عنها، ولم يهدأ حتى اتّصل بالكاتبة وصاحبة الكتابة، في دمشق، ليقول جميل الكلمات. يتلاشى الوفاء اليوم، كما تتلاشى الروائح العطرة في الأجواء المفتوحة على المقتلة، وجان عبيد وفيّ بديع لمَن أحبّهم، لأنّه صادق، من دون مصالح وغايات، ولا دناءات في النيات، كحال الغارقين في فوضى القشور.
 
لا يُعوَّض. قامة الحبّات المتلألئات. هذا المارونيّ بالسلوك والروح، يرحل عشية عيد مار مارون. وهو، إن كان مسيحياً، فذلك في اللسان والقلب، امتداداً إلى الضمير والفكر، فيما أزلام الأديان اليوم، تقريباً، متاريس متنقّلة. المرء، كجان عبيد، إنسان في أعلى الدرجات، يذكر الإمام علي في الحديث والاستشهادات، كما المتنبّي وفلاسفة الإنسانية. ومن الصفات العقل، فارتقى بالمشهد السياسيّ اللبنانيّ، ورفعه مراتب، ولو أنّه صدِئ، متآكل بالأمراض. وربما الظرف والحظّ تحالفا عليه، فلم يصل إلى حيث يليق بالماروني الكبير الوصول؛ إلى القصر وقيامة الدولة. ومن الصفات النُبل، وهي أروعها، جمّلت المكانة ورفعت القيمة، وجَمعت حوله خصوم الأيام والمراحل. أقصى الخسائر. حزنٌ بحجم الكون.
 
fatima.abdallah@annahar.com.lb
Twitter: @abdallah_fatima