الخميس - 16 أيار 2024

إعلان

صور في ذاكرتي تحية لعيون السمرا

المصدر: النهار - فيوليت يوسف عطية
تنتعش ذاكرتي عندما أرى صورة "سمراء البادية " بطلة "فارس ونجود" صاحبة كل الألقاب الصاخبة "أميرة الغناء العربي" "واحة الصحراء" "أم عيون السود".
تنتعش ذاكرتي عندما أرى صورة "سمراء البادية " بطلة "فارس ونجود" صاحبة كل الألقاب الصاخبة "أميرة الغناء العربي" "واحة الصحراء" "أم عيون السود".
A+ A-
تنتعش ذاكرتي عندما أرى صورة "سمراء البادية " بطلة "فارس ونجود" صاحبة كل الألقاب الصاخبة "أميرة الغناء العربي" "واحة الصحراء" "أم عيون السود".
لم يكن جهاز التلفزيون متوفراً في كل منزل في بداية السبعينيات من القرن الماضي، بل كان يوجد في القرية جهاز أو اثنان. وكان بالفعل مسلياً ومفيداً. فمحطة تلفزيون لبنان الوحيدة آنذاك كانت تفتح عند الساعة السادسة مساء حتى منتصف الليل فقط. وإن كنا لطفاء ومطيعين ومتممين واجباتنا المدرسية، يتكرم جدّي علينا في نهاية الأسبوع بحضور نصف ساعة من الصور المتحركة. إذ كان بيت جدي لأمي ينفرد بامتلاك هذا الجهاز العجيب. وكانت برامج التلفزيون آنذاك تُعد وتُحصى.
وغالباً ما كان التلفزيون ليُشاهد في خلال أيام الأسبوع إلا على نشرات الأخبار فقط.
أما مشاهدة البرامج ما قبل الأخبار وخلال الأخبار وبعدها كانت في نهاية الأسبوع فقط، حيث كان يسود صمت يطبّق بصرامة وحزم لا يتخلله سوى تعليق بعض الأشخاص البالغين بين مؤيد ومعترض لـ"أم ملحم" و"أبو ملحم"، وتنقسم الآراء والمواقف. وحبذا لو كان الاثنان برأي واحد فيتم التطييب ويعم الهدوء والوئام، إذ يكون أبو ملحم وأم ملحم برأي واحد فتكون المتابعة هادئة وحذرة. وخلال الأخبار كان الحاضرون يتمتمون عبارة "الله ينجينا" وتعاد عدة مرات على أفواه الكبار مع هزة رأس توحي بكل المصائب وتعبر عن كل الترددات الكارثية التي حصلت أو قد تحصل وتتنبأ بغلاء الأسعار والآتي أعظم.
أما سهرات الصيف فلا تنتسى على سطح البير، فقد كان أخوالي يحضّرون القعدة بإتقان، غرفة مسقوفة بالزاب مع باقة زوباع الذي يهشّل البرغش مع إمدادات كهربائية للتلفزيون الذي كان يوضع على طاولة متينة في مكان كاشفاً للجميع، الصغار على الأرض على البساط المفروش وكان هناك أكثر من ديوان للكبار للجلوس لاستيعاب العدد الكافي من الأهل والجيران. وتنطلق سهرة الخميس مع الزجل اللبناني في أجواء من العنفوان والفرح. وكان الحاضرون ينقسمون مع من يحب شعر زغلول الدامور وفرقته وآخرون مع موسى زغيب وفرقته. وكان علينا نحن الصغار أن نلزم الصمت لا صوت ولا حس إن فهمنا المعنى الزجلي للقصيدة أو إن لم نفهم ذلك. ولكن لحن الشعر وإيقاعه وجمال الشروقي مازالت ترقص على أوتار قلبي أنغاماً وألحاناً تدفعني لأفتش عليها على صفحات الفيسبوك لأروي غليلي من تلك الألحان الحنونة والأبيات الشعرية الرائعة. فصداها يتجاوب مع قلبي مثل النغم الخفّاق، فلها عندي هوىً طيب الذكرى. أما "فارس ونجود" فكان البرنامج المفضل لجميع أفراد العائلة، ما إن يأتي أبي من عمله ويأكل ويغتسل ويرتاح قليلاً، نكون قد تحضّرنا للذهاب إلى بيت جدي الذي يبعد عن بيتنا أكثر من عشر دقائق سيراً على الأقدام. ولا ننسى أن نأخذ معنا ضوء البطارية لأننا بحاجة إليه أثناء العودة وخاصة في الليالي الحالكة، إذا لم يكن هناك ضوء قمر(إن لم يكن القمر بدراً). "الليلة في برنامج فارس ونجود نريد أن نسهر عند بيت جدي". ولم يكن والدي بحاجة الى محفّز لذلك، فهو كان يحب أغاني "سمراء البادية" سميرة توفيق. وننطلق باكراً "لنلحق كلمة أخبار" يقول أبي. وبعد الأخبار كان صوت "السمرا" يملأ أجواء السهرة ويخترق عتمة الليل ليطال نجوم السماء فتزداد تلألؤاً وجمالاً وتتناغم متراقصة في السماء مع قمر بلاد البترون في حبور متناسق وتطيب الأجواء ويسحر المساء ويطبطب على صوت النهر الجاري ويتلاشى حفيف أوراق الأشجار على كتف الوادي. أيام وذكريات جميلة تنعش الذاكرة وتروي النفس. أيام إن عادت سنختلف على أي محطة سنضع التلفزيون لكنها لا لن تعود.
حادثة جميلة من هذا المشهد الطيب واللطيف لا بد من ذكرها، لها في قلبي صدى مميز لا سيما عندما أسمع صوت "سمراء البادية " أم عيون السود.
في إحدى أمسيات الصيف كنت أنا وأخواتي مع أبناء خالتي كعادتنا نلهو ونلعب عند بيت جدي على السطيحة، وإذ بنا نسمع طلقاً نارياً، وقبل أن تتابع الطلقات تعلن جدتي حالة الطوارئ القصوى وتنهرنا إلى الداخل إلى الداخل، وما زلنا نسمع الطلقات، وبين كل طلقة وأخرى استراحة ليست للراحة بل لدك البندقية بالخرطوش (لم تكن أيام رصاص بعد) وطلقة أخرى واستراحة ومن ثم دواليك لحد العشر طلقات وليس أقل من خمس. والقصة هي عيون "السمرا" أن جار بيت جدي الذي يحب الحياة ويعشق صوت "السمرا" وعيونها بدأت بالغناء بأغنيتها الشهيرة: "بالله صبّوا هالقهوة وزيدوها هال". وهو يضرب كأسا ليلياً منتظماً فاشتغل العرق شغله واشتعلت مشاعره الجياشة حيال "السمرا" وأطلق عياراته النارية لعيونها الجميلة، ونحن نستكين في ملجأ جدتي ننتظر برهة ونعد الدقائق بين الطلقات ونتوعد لحين انطلاق الطلقة التالية لتنتهي الأغنية وينفد الخرطوش المخصص لهذه الأمسية. وهكذا عندما نسمع صوت طلق ناري من بندقية جار بيت جدي نهرول إلى الداخل ونسرع باستئذان جدتي أو جدي لتشغيل التلفزيون ونصرخ بأعلى صوتنا :"آه يا سمرا، ام الشامية، لعيونك".
لقد أطربتنا وأطربت جارنا والقرية والحي ولبنان والعالم. تحية لعيونك الحلوين، وللحُمرة على شفايفك الطبيعيين، وللشامية على خدك الجميل يا جميلة الجميلات وأهضم المخلوقات وملكة البساطة وأميرة الأميرات، ولك مني ألف طلقة من بندقية جار الطفولة كل ما سمعت أغنية من أغانيك الخالدة. وكل هذا لا يكفي لنقول لك كم نحبك وكم لك من ذكريات رائعة وجميلة عندنا.


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم