السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

صـدفــة

المصدر: النهار - نزار الحصان – مخرج سينمائي – النمسا
هنا تبدأ الحكاية المثيرة، ولكن لابد من مقدمة
هنا تبدأ الحكاية المثيرة، ولكن لابد من مقدمة
A+ A-
"أجمل ما في الصدفة أنها خاليةٌ من الانتظار"، محمود درويش
إلى..... ك. س. في ذكراها السنوية
إن أهم الأحداث التي حصلت معي وتركت أثراً عميقاً في حياتي كانت مجرد صدفة، لذلك قررت أن أهيئ الظروف المناسبة لهذه الصدف كي تتكرر جالبة لي السعادة.
هنا تبدأ الحكاية المثيرة، ولكن لابد من مقدمة:
مستندا لمقولة أوغست دي مورغان
"ما يمكن أن يحدث سوف يحدث إذا قمنا بعدد كافٍ من المحاولات".
بحثت طويلاً في هذه الظاهرة، قرأت كتب السند والهند والغرب والشرق، ووجدت أن الكل يحتفي بالصدفة وليست شيئاً خاصاً بي.
في الديانات السماوية تسمى "القــدر" وهي تحمل المعنيين الإيجابي والسلبي، بل وهي أحد أركان الإيمان، مع العلم أننا دائما ما نستخدمها في المفهوم الشعبي للدلالة على النهايات المأسوية.
في الماركسية يفسرونها كقانون ديالكتيكي معقد يصل بعد مجموعة من التراكمات الكمية والنوعية ليُكٌّن ما يطلق عليه "الحتمية التاريخية"... كلام منطقي وكبير!!!! دعمه الكثير من الفلاسفة والوجوديين، الذين أكدوا أن "الصدفة" هي مبدأ ترابط لاسببي".
أما الآخرون فأضافوا أسباباً مثل التخاطر وقانون الجذب وبعضهم ربطها بحركة الكواكب وعلم الفلك.
ولكني أميل أكثر إلى الجانب الصوفي البسيط، فهكذا أجمل، هل يحتاج لقاء صديق قديم في شارع ما إلى كل هذا الجدل الماركسي، ومراجعة قوانين التطور والنشوء لداروين، والغوص في تجارب ماندل؟!
....فقط رأيته... تعانقنا... تحدثنا عن ذكريات ومضى كل في سبيله وسنخبر الآخرين كيف التقينا "صدفة".
الصدف تحدث "صدفة"، فلا نقول إن فلاناً وفلانة انفصلا صدفة، بل نقول تعارفا صدفة وهذا أيضا شيء جميل، ولكن ليس دائماً، فغالباً ما يحمل هذا التعارف نهاياتٍ سيئةً كما حدث معي.
فقد تعرفت على ( ك. س.) صدفة في أحد اللقاءات الاجتماعية، وصدفة كما في الأفلام الهندية حدث أننا نستقل قطاراً بنفس الاتجاه، فجلست بجانبها وتحدثنا طويلاً.
وصدفة اكتشفتُ أني أحب موسيقى الجاز مثلها. وردّدتُ لها كما قال فولتير "الصدفة....هي صاحبة الجلالة".
ويا "للصدفة "أيضاً، فقد جمعتنا الكثير من الاهتمامات المشتركة، وأننا نزور نفس الأماكن والأنشطة، وأنا أفضل مثلها كل قوائم الطعام التي تحب.
ردّدتُ أمامها مراراً: فعلا ما أجمل الصدفة.
قالت:
"الصدفة هي الالتقاء لواقعتين لا يوجد بينهما رابط، وإن كان لكل منهما سببه".
فكرتُ، لا بد أنها هي أيضاً مثلي مهتمة بأسباب الصدفة وتبحث عنها.
ولكن إلامَ ترمي من وراء هذه العبارة يا ترى؟ سألتها.
قالت: أنا أؤمن بالقدر، فإن له الكلمة الأخيرة دوماً.
سأقول لكم سراً، في الحقيقة هي تعجبني منذ زمن طويل، لقد هيأت نفسي لمثل هذه الصدفة لأجعلها "حتمية تاريخية" حسب كارل ماركس.
فمنذ أربعة أشهر وأنا أتتبعها، وأسأل في الخفاء عنها، وكنت أنتظر الفرصة فقط لأقدم نفسي لها ليبدو الأمر "صدفة".
عندما وصلنا إلى محطتها حيث منزلها، هَمّت بالنزول، فقلت: يا للصدفة هذه المحطة التي يجب أن أنزل بها أيضاً.
ابتسمت بخبث وقالت: لا داعي...فأنا "بالصدفة" أيضاً عرفت أنك منذ أشهر تراقبني وتسأل عني.
وأضافت: القدر كائن ينصب الفخاخ على حين صدفة.
صَمَتُّ، يالحظي السيئ... يا لسوء مخططاتي، وليذهب كامير ويونج ومورغان... وكل من ورطني إلى الجحيم.
ترجلتْ من القطار وتركتني وحيداً، وقفتْ على الرصيف ملوحةً لي بيدها مودعة وابتسامتها كابتسامة منتصرٍ مزق أشرعة السفن الغازية.
كنت أنظر اليها بقلب على أبواب الاحتشاء وكلي أسى لفشلي في تدبير "الصدفة".
ولكن.... وللصدفة أيضاً... وقبل أن أشير لها بيدي، دفعها رجل سكير عابث تحت عجلات القطار.
يا إلهي ... لقد صَدَقتْ.
نعم إن للقدر كلمته الأخيرة.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم