الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

الله على سطوتك يا أستاذ حمود

المصدر: النهار - إبراهيم سمو
تتداعى تفاصيل تمرد شَرمُو؛ أخي مثل فلم مشوق عن سندباد أوعلي بابا.
تتداعى تفاصيل تمرد شَرمُو؛ أخي مثل فلم مشوق عن سندباد أوعلي بابا.
A+ A-
تتداعى تفاصيل تمرد شَرمُو؛ أخي مثل فلم مشوق عن سندباد أوعلي بابا.
أحنُّ متحسراً إلى ما مضى وأهذر: الله على سطوتك يا أستاذ حمود!.
أحنّ و...أرى بوضوح كيف المربيات يبذلن في الروضة، أقصى ما لديهن من حنان ورعاية.
العيب إذاَ في جدعون، يقلبها مناحة؛ يوعوع بعويل مُرّ:
خذوني الى البيت!.يأبى أن يتأقلم ويبقى تالياً بمفرده في الروضة.
شَرمُو هدد قبل ثلاثة عقود بالفم الملآن: لن أذهب بعد اليوم إلى المدرسة، يعني؛ لن أذهب.
وها جدعون ذا يعيد في الحضانة كَرّة عمه ويعكرني.
العم فرَّ عندئذ، يشهق ويزفر ما إن تحررت يده الفتية من قبضتي، وتشكى: ماعدت أطيق المعلمين والكتب والدفاتر والدروس.
تراقص، وهو يبتعد، مستأمنا على نفسه، ثم بقبق يركل بوجع حقيبته وينغص، من ثم، عليّ وعلى كل من سمع ساعتها الفضاءات، وجعجع: سئمت حفظ الأناشيد عن ظهر قلب و...ما عدت أطيق تسميع جدول الضرب.
لمحته يرجع تارة، وهو على تلك المسافة أمامي، القهقرى أو ينحرف أخرى، متقافزاً ذات الشمال أو اليمين، بحرفية قد لا يبلغها الكنغر.
استراتيجية العم الصغير تكشفت يومها سريعاً، ولا تشبه، البتة، ما يتكتكه الآن بطيش وغرور، ابن الأخ المنكمش على نفسه؛ جدعون.
التقطتُه أعني شَرمُو العم يستشعر دبيب حركتي، يتابع تدافع قدميّ ببهلوانية قناص، ويجنح على هدي ذلك إلى الوثب أوالتقهقر، حسب الحال مثل لاعب كرة سلة.
كنت أتقدم خطوة، وتضبطه عيوني يرتد، ووجهه نحوي، خطوات إمّا إلى الخلف أو إلى أحد جانبيه ببراعة لا تضاهى.
شَرمُو قصد بالمشرمحي فرارَئذ، أن يحصن روحه من غدر ما قد أباغته أنا به، وراح يتذمر من بعيد، لم يمنحني لشدة فورانه أن أجادله، بل تنطط أكثر في أرضه، وعيَّط بتذمر:
يقرفني"فولار الطلائع" و"الصدرية"...أكره الانضباط لدى"تحية العلم"، وترعبني عصا الأستاذ حمود.
واندلق يفر مثل مُهْر غُرّ، هذه المرة إلى بعييييييييييد.
تتبعته تتبع سلحفاة لغزال، وراودني ما إن أدركت عجزي، أن أغريه عَلّني ألحقه أو أهدِّئ على الأقل من روعه.
لهثتُ ويشهد الله و...حقول البندورة والقطن والقثاء المتاخمة لمنزلنا، وشَرمُو نفسه على بلواي في ملاحقة لم تكن، والله، وقتذاك متكافئة.
طفقتُ لقلة حيلتي أستجديه، وأطلق وعوداً أعلم علم اليقين، أني مُنسلِت "يوم الطَق والرَّق"، حال الشبوط ويد الصياد، منها.
ارتخى...مال،على نحو مخالف لما يمكر ويتحدى جدعون الآن به، إلى الوعود ولم يؤهله عمره الفتي كشف خلبيتها، وركنَ فـ...تفاوضنا:
صخب ما أن بادرتُ؛ نعنع يبكي من جديد ويرفض العروض كلها، ركل شتلات حقل جارنا، ورشقني من طيشه بثمرات من البندورة والقثاء.
أغريته بإمكانية مرافقتي إلى المدينة؛ حدثته عن سندويشات الفلافل والكباب الشهية،عن كازوز سينالكو، وعن"بقلاوة الحلبي"والمامونية.
سال منه اللعاب وقاطعني على حين غرة: وهل تشتري لي كذلك كرة قدم وحذاء رياضة؟
أجبته طبعاً!. لكن اشترطت: عليك بالمدرسة.
زفر يتأفف مرة أخرى من واقع قهري؛ تظلم بعصبية خفيفة من الدوام الصارم الطويل، ومن محدودية فرص الاستراحة، وتأفف من كثافة الحصص الدراسية، ومن تنمر المعلمات على التلاميذ.
باعد دموعاً بأصابع مرتجفة، وحاول أن يتحررأكثر من تشنجه: هل تشبه دكاكين المدينة دكانيّ "عبدالله عزمو"و"موسى"؟.
أجبته: أنت زرتَها ذات مرة بنفسك وتعرّفت على كل شيء.
هان أمامي وحلف: ذاكرتي لم تلتقط وحق الملائكة آنها شيئاً!.
أشفقت عليه وفصّلت مبتسما: لا...أكبر؛ أكبر بكثير من دكاكين السمانة في قريتنا.
تثاءبتُ هنيهة وأكملت: وتفترق حوانيت المدينة، فتمتلئ بأشياء لذيذة ومغرية، وبتسالٍ وألعاب خلابة.
ـ متى تصطحبني إليها. بادر بعفوية، فجاوبته: قريباً جداً.
ـ وتشتري لي القضامة والمشبك!.
ـ كل ما تشتهيه روحك.
قرفص مرتكناً إلى ظل شجيرة، خمنتها يومئذ لدوار شمس.
وتبسمتْ ملامحي و...تمتمتُ:
ارتختْ اذاً براغيه!.
ابتسامتي أقدحت رضىً وبعضاً من تهكم؛ تهكمت بالقضامة والمشبك.
وحضرتني، ملاحقـتئذ، دردشاتُنا في العائلة عن شَرمُو والمدينة،عن مفارقات بهلوانية زيّنا بها نحن من خيالنا الخاص الحكاية.
وياما داعبْنا شَرمُو الصغير حينها، من باب الدعابة وقهقهنا:
أيهما أشهى القضامة أم المشبك؟.
بل ياما تحولت دردشاتنا العائلية،إلى مسامرات مسائية هازئة،عن طفل لايذكر من الزيارة تلك كلها،سوى أن والده ابتاع له حفنة من القضامة ،وزوده بقرص مفتول من حلوى لذيذة،أسماها المشبك.
لعلعتْ البسمةُ ؛استغرقت وجهي وملامحي
وأدركت على خلاف معاناتنا الحالية مع جدعون، أن التمرد حينها انتهى.
ودريت، من ثم، إن المفاوض الصغير قَبِلَ وقتها أن اقبض عليه، بعد أن قادني الى الإذعان لشروطه كلها.
جرجرت شَرمُو بود ولين... سلكنا، وقبضتي محكمة على إحدى يديه، منعرجاً لا يقود سوى إلى المدرسة.
قال: انظر الأستاذ حمود. قلت: لاعليك تعالَ.
وتبعني دونما إبطاء لعله وثق بي.
تصلّب على بعد خطوات في مشيه: انظر الأستاذ حمود يتقدم نحونا...انظر إلى عصاه!.
مضيت أجرجره كصخلة ممتنعة.
و...هتف الأستاذ حمود من بعيد:
ـ هل من مشكلة؟
ـ لا...فقط "الباشا" ملّ من المدرسة.
ـ"آها...حلو"!.
وتحركت يد الأستاذ، حين تقابلنا، بهدوء وحرفية إلى وجنة التلميذ، ثم تنقلت فطالت إحدى الأذنين؛ اعتصرها وتوعد: "اسويك يا ابو راس فلم وعبرة... يا الله... على الصف... يا الله".
أذكر... بعد ان وبّخه الأستاذ حمود ودَعَكَ أذنه، لم يجرؤ شَرمُو أن يجاهرنا بحقيقة مشاعره حول المدرسة، ولم يعد اطلاقاً إلى مفاتحتي بشأن وعودٍ له بذمتي.
لكن...
جدعون؛ ولدي يحذق بكل أسف في قلب السحر على الساحر، وتمكن رغم عدم تمييزه، من أن يجبرني على تحقيق أيّ هراء خلبي، تلفظته بصيغة وعد لتشويقه إلى البقاء في الروضة.
يا لبراعة التملص لديه، وهو في هذا السن، من كل إلتزام!.
أحتجُ لدى دار الحضانة:
مضى شهر ونيف على عدم الإنصياع!.
تلفظُ المربية الألمانية المدعبلة، اسم جدعون بطريقة مضحكة، وترد بإمتعاض:علينا بالصبر!.
اقترح: "فركة أذن"خفيفة من أصابع ناعمة قد تطرّيه!.
تعارض: قوانين وأعراف بلادنا لا تبيح ذلك يا سيد!.
أرطنُ: الله يذكرك بالخير يا أستاذ حمود!.
ـ لم أفهم!. تستفهم، فأجاوبها:
لا شيء،أ نا أهلوس أحياناً.
ترمقني بنظرة مستهجنة من عيونها الصغيرة وتبتسم بمكر و... تنصرف.



حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم