الخميس - 16 أيار 2024

إعلان

براجيلاتو... حين يمنحك القدر تذكرة الصعود إلى جبال الألب

المصدر: النهار - محمد محمود أحمد - ايطاليا
في المسير، هبّت عاصفة ثلجيّة قاسية تلسع الأنامل
في المسير، هبّت عاصفة ثلجيّة قاسية تلسع الأنامل
A+ A-
في هذا اليوم تحديداً، كانت الوجهة نحو إيرلندا عبر مطار بيرغامو، ولأسباب أفهمها وأجهلها، وصلت عبر القطار إلى أقصى الشمال مخالفاً لما هو موضوع سلفاً. وموضوعي...
في المسير، هبّت عاصفة ثلجيّة قاسية تلسع الأنامل، وتخدّر طرف الأنف، وتحدّ من حركة مفاصل الجسد والسيارات.. وبالتالي زاد الوضع صعوبة.
كان بوسعي أن أعود من حيث جئت وأسلم، لكن قضيت ما تبقى من الليل الطويل في بلدة صغيرة ونائية تسمى "براجيلاتو"Pragelato، وهي في شريط حدودي بين إيطاليا وفرنسا، باحثاً عن مأوى.. لا متاجرَ، ولا مقاهٍ، ولا أناس راجلون.. وفي قارعة الطريق السيارات تعبر بجواري بلا هدنة.. وقفت تحت مظلة لإحدى محطات الحافلات.. وبوساطة خرائط غوغل، كتبت "كنيسة "church، وكانت النتائج: ثلاث كنائس قرباً وبعداً بالتوالي حوالَيْ ثلاثة كيلومترات. توجّهت، وداهمتها الثلاث واحدة تلو الأخرى، وسط نباح الكلاب، ونظرات الأهالي الممتلئة ريبة ورائحة البيرة مجهولة المصدر. لكنّها جميعها كانت موصدة تماماً، وتأكّدت يقيناً بأن لا نافذة ولا منفذ يسمح حتى بمرور قطّ أفريقي نحيل! أغضبني ذلك، وبلغة نوبيّة، وبنبرة مرتفعة شتمت القسّ، ووصفتة باللص، وغادرت!
ما العمل؟ الساعة تقترب من العاشرة مساءً.
وأنا أبحث لعلّي أجد أحد البارات مفتوحاً لأقضي الليل، ولأجد الدفء لا سواه بمعناه الحرفيّ.. في طريقي قابلت مبنى منظّمة تعنى برعاية كبار السن (دار عجزة)، فرحت كثيراً، وكانت لي دار نجاة. اتّصلت بالهاتف الخارجيّ، ردّت عليّ إحدى العاملات - يبدو أنها المسؤولة - تعمّدت التحايل، وقلت لها بإيطالية مفهومة وركيكة: "إن بحوزتي أغطية ومأكولات، وأريد التبرّع بها.. فهل يمكن فتح الباب لكي أسلمها للشخص الموكل؟". لو قلت أي شئ آخر سوى هذا لما تمّ التعامل معي! وفعلاً، فتحت الباب إلكترونياً، ودخلت، والتحفني دفء المكان (هل هنالك شعور في الكون أروع من الدفء؟!)، وبدأت أشعر بموضع أناملي وأحرّكها.. جلست في أقرب كرسيّ وأنفخ في كفي يدي من دون أن يأتي أحد لاستقبالي، ولم أرغب في ذلك!، بعد مرور دقائق، أسمع طرق حذاء ذي كعب عالٍ وجودة عالية، خطوات كحدو مُهر أصيل قادم من أعلى على مهل. رحّبت بي بكلّ بشاشة واهتمام، وتحدّثت معها مباشرة بكلّ صراحة حول إمكانية أن أقضي الليلة فقط هنا لحين الصباح، ثمّ أغادر، وأنّه لا حلَ آخر لديّ.. دعتني أكمل حديثي.. وجاء دورها، تردّدت، وظهر على محياها ارتباكٌ خفيفٌ قبل أن تعتذر بأدب بالغ وببراءة ملائكيّة بأن القانون لا يسمح باستقبال سوى كبار السنّ، تفهّمت ذلك وخرجت.. هزمني شبابي وهزمتني بلطفها، وأنوثتها، وجمالها الفتّاك. قبل أن أغلق الباب قالت لي: "انتظر، هنالك مجموعة من الشباب سيتوجّهون إلى أحد المنتجعات القريبة من هنا، سأستفسر إذا ما كان بالإمكان اصطحابك معهم أو لا. وبالفعل أجرت اتصالاً ليس بالقصير، وأغلقت الهاتف بسرعة، واصطحبتني إلى الخارج بالقرب من سور مدرسة، وكانت سيارة تتحرّك نحونا ببطء. خرج منها شابان وفتاة كانوا في مقتبل العشرينات أو أقلّ، ويضجّون حيويةً ومرحاً وجدالاً.. رحّبوا بي، وقالوا إنهم متوجهون للعمل في منتجع (med club) . قبل أن أصعد السيارة شكرت تلك الآنسة، ولوّحت لها بيدي عن مدى تقديري لها.. تحرّكنا، وعلمت في الطريق أن الشباب يدرسون هندسة إلكترونيات في جامعة (تورينو)، ويأتون في الإجازات والعطلات القصيرة للعمل في المنتجع. أعجبت بتواضعهم وفطنتهم، تحدّثت عن السودان وعن السياسة وكورونا، وسمعت منهم عن المناطق الإيطالية التي يتحدّرون منها وعن أهدافهم وهواياتهم.. طرحت لهم فكرة أن أعمل معهم، فرحّبوا بذلك وتحمّسوا.. وحين وصلنا، أخبروا رئيس العمال عنّي، وقال لنا: "لا بأس، ستبدأون العمل من غدٍ".. إنها الأقدار، لقد طاب بي المقام، وقضيت في (Pragelato) أكثر من شهر... كنت في بياض دامس تحت سلسلة جبال الألب الشاهقة الوعرة، وبجوار جداول مياه بلا مياه وبحيرات جليد زجاجية وصنابير جافة مُجمّدة.. وبين أشجار الصنوبر المثلثة المغطاة بالثلوج ذات الرائحة المميزة التي تفوح أكثر نهاراً، وبشر قليل وطبيعة خلابة.. أما ليلاً حين ينقلب البياض سواداً، ومن بعيد تلمع أعين قطعان وأفراد الذئاب والغزلان البرية على شكل نجوم، بالتأكيد أنت ترى ذلك من على الشرفة الدافئة التي تتدلّى منها بقايا الثلوج كخناجر حادّة.

الحياة هناك ضربٌ من الخيال، أنت دخيلٌ على الثقافة الأوروبية، وبالأخص ثقافة ونمط سكان قرى ووديان جبال الألب. التصرّف حيال كلّ شيء مُعقّدٌ وباردٌ، يخضعك للتفكير كثيراً وللحذر أكثر وللتهوُّر والتعجُّل حيناً.. كيف لا وأنت أفريقي ابن الشمس والرمل ونشأت بالفول والنخل؟

هناك تتميّز القرى بالمباني الحجرية والخشبية والنوافير والآبار والمغاسل والحمامات المعدنية، فضلاً عن الأفران المشتركة. بطبيعة الحال هنالك عاداتٌ وتقاليد للسكان التمستها، لكن لم أتمكن من الوقوف عندها كثيراً، فسكان هذه المنطقة أغلبهم يتحدّثون الفرنسية، وبنيتهم الجسمانية قويّة، ويعتمدون على الحطب للتدفئة وتناول البيرة ولحم الخنزير المشبع بالدهن الثقيل والزبدة والكثير من زيت الزيتون.. لا يتجاوزون الثمانمائة نسمة.. هنالك مدارس ومرافق ومكتب بريد ومعلومات، ومواصلات. يفضّلون قيادة السيارات ذات القير اليدويّ، في شوراعها الضيِّقة المنحدرة إياباً، المرتفعة ذهاباً، ويتخذون من الرياضات الشتوية كمورد دخل، فيها أشهر المزالج الأولمبية الأوروبية.. كما تشتهر البلدة بإنتاج العسل وبعض المنتجات الزراعية المحدودة وتربية الماشية. لطالما كانت تربية الأغنام وتصنيع الألبان والأجبان، خاصة الأبقار، مورداً ثميناً للغاية لاقتصادها. صحيحٌ أنه يغلب للاستهلاك العائلي، ولكن أيضًا هنالك متاجر صغيرة لبيع تلك المنتجات.. كما يشتهرون بتقطير الخمور (جن)، إضافة إلى صناعة العطور والجواهر ومعالجة الأخشاب ذات الجودة الرفيعة وسياحة الأثرياء..

وداعاً براجيلاتو. وداعاً يا بلدتي البيضاء الناصعة.



...
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم