الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

المطلوب ثورة ثقافيّة

المصدر: "النهار"
تعبيرية (أرشيف "النهار").
تعبيرية (أرشيف "النهار").
A+ A-
أنطوني سعادة
 
الثقافة مصطلح مهمّ في حياة المرء، من دونها لا يُمكن بناء المجتمع و تطويره. إنّها مجموعة من السلوكيّات، والمبادئ والخواطر التي يكوّنها الشخص البشريّ في شخصيّته على أن تكون متوافقة مع البيئة الاجتماعيّة والعادات والتقاليد. إضافة إلى اعتبارها مجموعة من العلوم والخبرات التي يتقنها المرء من خلال الوسائل التقليديّة كالقراءة ومشاهدة البرامج العلميّة والوثائقيّة. ومع تطوّر الحياة وتقدّمها، تطوّر مفهومها واختلفت مقاييسه؛ فأصبحت مرتبطة بالتحديث التكنولوجي الذي ظهر مؤخّرًا، وبات المتعلّم يستغلّ التكنولوجيا للّهو من دون الاهتمام بتقوية ثقافته بوساطتها، الأمر الذي انعكس على المستوى الثقافي للشخص البشري؛ وبالتالي أصبح الإنسان بلا ثقافة وجاهل، وأثّر ذلك في خياراته الحياتيّة اليوميّة. فهل تُعْتَبَرُ التكنولوجيا وسيلة أساسيّة للثقافة؟ وكيف يمكن استخدامها لتطوير النفس والروح والإنسان؟
 
إنّ الجيل الحديث صرف نظره عن القراءة والكتابة والثقافة، وزاد مِن تعلّقه بالأجهزة الإلكترونيّة ووسائل الترفيه. بمقارنة بسيطة، يتبيّن لنا أنّ الجيل الحديث لا يمكن أن يتّفق مع الجيل القديم، الكهل. فالجيل القديم تعلّم، وأمضى معظم أوقاته في ترجمة الأحاسيس والمشاعر والخواطر كتابةً، وكان يقرأ ويثقّف نفسه بنفسه من دون أيٍّ من الوسائل الحاليّة. أمّا اليوم، ومع بروز التقدّم العلمي، ومع ظهور شبكة الإنترنت، ظلّ الجيل الحالي على حاله، بل تراجع وأصبح على الحضيض في المستويين: الأخلاقي والتعليمي. فبدلاً من أن يستغلّ هذه الوسائل لمصلحته، استخدمها للّهو حتّى وصلت إلى حدّ إيذاء الآخر. الوقت ثمين ويجب ألا نهدره!
فالعالم تقدّم، ونحن من أنصار التطوّر، ولكن علينا استعمال هذا التقدّم لمصلحتنا ولصالحنا. نلاحظ أنّ آخر الإحصائيّات تشير إلى تراجع واضح في شراء القصص وقراءتها، إضافة إلى تراجع في الدرجات المدرسيّة للأولاد. الأمر الذي ينعكس سلبًا على مستقبل الأطفال ومستوى ثقافتهم. هذا على الأقلّ ما هو حاصل في لبنان. أمّا في البلدان المتقدّمة فنرى أنّ حكومات تلك الدول تهتمّ بتقييم برامجها المدرسيّة على أسس تطوير العلم، وبناء شخصيّة المرء... فهل من الطبيعي والمنطقي مثلًا، أن يقضي أولادنا ساعات أمام شاشة عوضًا من قراءة كتب أو روايات؟ إذًا، كيف عاش أجدادنا بلا تكنولوجيا؟
 
نستنتج أنّ الإنسان سواء أكان طفلًا أم بالغًا بلا ثقافة، وقد انعكس ذلك على حياته الشخصيّة، خصوصًا على الخيارات التي يتوجّب عليه اتّخاذها على مختلف الأصعدة السياسيّة والحياتيّة. فنرى أنّ الإنسان الحالي غضّ النظر عن قراءة الصحف ومشاهدة الأخبار؛ بالنسبة إليه يفضّل مشاهدة فيلم أو مسلسل على منصّات التواصل الاجتماعي؛ لذلك، نرى أنّ الكثير من الشبان والشّابات لا يتمتعون برأي خاصّ، ولا يهتمّون بكيانيّتهم اللبنانيّة العريقة.
 
لعمري إنّ هذا الأمر معيب جدًّا! ففي دول العالم نلاحظ أنّ الشباب هم المستقبل، والآمال كلّها متعلّقة بهم. إنّ التكنولوجيا قتلت الحياة الاجتماعيّة، فأصبح كلّ منّا وحيدًا، وانغلق العالم بعضه على بعض. إنّ الإنسان يقضي وقتًا أمام حاسوبه أكثر ممّا يقضيه مع عائلته، الأمر الذي يدلّنا على ظهور عزلة اجتماعيّة خطيرة، يجب الخروج منها. لذلك، أصبحت حياة الفرد على المحكّ. نشاهد شبابنا وشابّاتنا يتخاصمون على ألعاب تافهة، بدلاً من رؤيتهم يتبادلون الأفكار والخواطر الفكريّة والوجدانيّة والحياتيّة التي ترتبط بصلب الوطنية والمواطنية. لقد بتنا بحالة يرثى لها، وإذا بقي الوضع على حاله فعلى الدنيا السلام. فهناك قول مأثور يقول: "الثقافة هي روح الديموقراطيّة، وذاكرة الشعب". لماذا سمحنا لأنفسنا بالوصول إلى هذا الدّرْك؟ ألأنّنا سكتنا عن الظلم الذي لحق بثقافتنا، فقتلناها بنهمنا إلى الغرف من أمواج بحر التطوّر والتكنولوجيا؟
 
العالم بحاجة إلى ثورة ثقافيّة للنهوض من كبوته القاتلة، خصوصًا لبنان. فالأوضاع الحاليّة، والثورة التكنولوجيّة قضت على آخر نفس لإمكانيّة استنهاض الروح الثقافيّة التي تلفظ رمقها الأخير، عوض أن تكون هذه التكنولوجيا وسيلة ناجعة وطيّعة بيد الإنسان ليبني بها ثقافته. على النّاس أجمعين توجيه الاهتمام التكنولوجيّ من الدائرة الاستغلاليّة المصلحيّة نحو الدّائرة الإنسانيّة لأنسنته وجعله فقط لخير الإنسان؛ وبذلك نكون قد حدّينا كثيرًا من خطر التكنولوجيا على الإنسان في الميادين جميعها، وضمنها الثقافة.
 
بناء عليه، الوضع الإنساني لم يعد يحتمل لأنّه سائر نحو التشيّؤ أكثر فأكثر، إذ بات الإنسان صاحب فكر معلّب ومحدود الاهتمامات ثقافيًّا. من هنا، تبرز الحاجة إلى تحرير الفكر الإنساني وفكّ قيوده من الاستغلال الكمّيّ الذي يعاني منه، لتوجيهه نحو تطوير كلّ ما هو نوعيّ وثقافيّ في خدمة الإنسانيّة. عدا ذلك، إن لم ننجح في هذا العقد بالذات بنقل العالم ثقافيًّا نحو حركة تنوير ثقافيّ، سيسير هذا العالم بعولمته وثورته التكنولوجيّة نحو عمليّة تدمير ذاتيّ وممنهج لإرثه الثقافي كلّه. فهل من وسائل للصدّ الثقافي بوجه هذه الموجة التكنولوجيّة الجارفة؟
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم