تانغو

الشّمس تبزغ رويداً رويداً من خلفِ أظافر الغيوم.
عصافيرُ الدوري تستيقظ بنشاط نافضة الندى عن أجنحتها.
على السطح الترابي كان جدي يتعارك و"المعرجلينة"، تارة تسحبه إلى اليمين وتارة يسحبها إلى اليسار، يجذبها من يدها وتبدأ رقصة التانغو على أنغام بقبقة الطّين المعجون بالماء والتّبن، المخلوط بتلك اليدين الخشنتين اللّتين خَبِرتا كل صنوف القسوة وجبروت الحياة.
جدتي تعدّ الفطور مع إبريق شاي بالعطر الذي أدمنته من يديها.
تنادي بأعلى صوتها من فسحة الدار:
"ألم تنتهوا بعد من "التعرجل"...؟ رح يبرد الشاي خلصونا".
ويجيب جدي بصوته الجهوري:
"جايين جايين، لا تصرخي صرعتي الحارة".
فتأخذ جدتي بالتمتمة بينها وبين نفسها لاعنة "أبو هالعمر" نادبة حظّها الزّفت الذي عرّفها على جدّي.
يسمعها وهو ينزل على السلّم الخشبي المركون في زاوية الدار.
جدّي: "ماذا تبربرين ياحرمة..؟ تلعنين حظّك يابنت الحسب والنسب، وكأنّ والدك كان المختار أو باشا.. أو قائم مقام". ..
ويطلق ضحكة قوية يتردّد صداها في أرجاء القرية..
"هاتي هالترويقة خلّصينا"، سأذهب إلى الحقل لإتمام تقليم الشّجر وأنتِ عندما تنتهين من أعمال البيت الحقي بي وخذي معك الزوّادة للغداء".
جدتي: "راح إلحقك يلعن أبو هالعمر يلي قضيناه ركيد".
كتمتُ ضحكة كادت تخنقني وهممتُ بالعودة إلى بيتنا...
كم أحببتُ جبين جدي وهو يقطرُ حنيناً وطيبة وعطاء.ً
وكم حاولتُ أن أتعلم تلك الرّقصة التي سحرتني بجمالها، لكنّ جدّي كان يقول لي دوماً: لا تستعجلي يا بنتي مازلتِ صغيرة، وكنتُ أراهنه بأنّني سأكبر وأتعلّمها وسأرقصها معه على ذلك السّطح الطّيني.
كَبِرتُ وكبُرَت أحلامي وعانَقَت حدود السماء، وعندما تعلّمت رقصة التّانغو لم أجِد السّطح، فقد تحوّل إلى سطح اسمنتيٍّ قاسٍ لا حياة فيه ولا رائحة للخير والطّيبة.
لم أجد أصايص الحبق والمنتور ولا سلّة القصب التي كانت جدّتي تَصُفُّ فيها الأواني بعد غسلها لتنعم بطهارة الشّمس.
لم أجد كرسيّ القشّ الصّغير الذي كان جدّي يصنعه بيديه، وعند استراحة الظّهيرة يجلس مفترشاً الأرض الإسفلتية متكئاً عليه.
كبرتُ ولم أجد إبريق الشاي المُنَكّه بالعِطر ينتظرني مع خبز التنور من يدي جدتي، ورائحة النّعنع البري وأوراق اللّمام تفوح من صدرها الحنون عندما تضمني إليها.
كبرتُ ولم أجدْ سوى الذكريات
وصورهم المعلّقة على حائط الغرفة