السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

استراتيجيّات تدمّر وأخرى تبني لبنان الغد

المصدر: "النهار"
 من التحركات الشعبية اللبنانية. (ارشيف النهار).
من التحركات الشعبية اللبنانية. (ارشيف النهار).
A+ A-
البروفسور ألان الأيي-باريس - فرنسا
 
نعلم جميعًا العامل الأساسيّ الذي لعبه التعليم في تكريس مكانة اللبنانيين وقدراتهم المعرفية، وفي فتح أبواب النجاح لهم في جميع أنحاء العالم. فعلماؤنا وأطبّاؤنا ومهندسونا ومعلّمونا وآخرون غيرهم، شغِلوا في السابق ويشغلون اليوم مناصبَ مرموقةً في البلدان التي هاجروا إليها.
فما هي الوسائل والسبل التي أدّت إلى هذا النجاح؟
 
‎مقاربة اللبنانيين التعليميّة بسيطة: عليك أن تذهب إلى المدرسة، وعليك أن تنجح في دراستك وأن تحصل على أعلى الشهادات إن كان ذلك ممكنًا. ولبلوغ هذا الهدف، نجد كلّ عائلة لبنانيّة مستعدّة لتقديم تضحيات مهما بلغت ذروتها. وإذا كانت العائلة غير قادرة على تحمّل تكاليف التعليم العالي لبناتها وأبنائها، خاصّة خارج لبنان، تتوافق الأسرة بأكملها على بذل التضحيات، والادّخار والتوفير في كلّ شيء، حتى لو طال ذلك ضروريّات الحياة. كما قد تلجأ مثلاً إلى بيع قطعة أرض تملكها ليتمكّن الأبناء من الحصول على الشهادات المرجوّة في لبنان أو فرنسا أو الولايات المتّحدة أو في أيّ مكانٍ آخر من العالم. ولا ننسى أن نورد ضمن تضحيات العائلات الصدمة العاطفيّة التي يسبّبها سفر الشابّ أو الشابّة بعيداً عن ذويهما ووطنهما وبيئتهما.
 
ولكي ينجح الطلّاب ويبرزوا في العلم، فهم يحتاجون أيضاً وفي الأساس إلى معلّمين متمكّنين. ولا يسعنا هنا إلّا الثناء على معظم المعلّمين اللبنانيين الذين لن تفيهم كلماتنا حقّهم ولن تستطيع التعبير عن مدى تميّزهم وتفانيهم، فهم يعتبرون نجاح طلّابهم نجاحاً لهم ولا يدّخرون أيّ جهد لتحقيقه، ويريدون أن ينقلوا كلّ ما يعرفونه إلى الطلّاب، بسخاء لا مثيل له، وغالبًا عبر تخصيص وقت إضافيّ لهم خارج ساعات الحصص والدوام.
 
كذلك تلعب الدولة أيضاً دوراً هاماً في توفير العلم من خلال تخصيص جزءٍ من ميزانيتها للتعليم. وبالتالي يكلّف الطلاب الأهل والمعلمين والدولة الكثير من المال والتضحيات وحتّى الدموع، في كثيرٍ من الأحيان لتمويل دراستهم. فما هو المردود من هذا الإنفاق الضخم؟
لعلّ العائد الأهمّ المفترض من هذا الإنفاق الباهظ هو الطلاب أنفسهم، وخصوصاً الذين بعد تخرّجهم يبرعون في مجالات تخصّصهم المختلفة مما يجعلنا نفتخر بهم. وفي المقابل، ينبغي أن يكون للبنان نخبة من الخريجين القادرين على العودة إلى بلادهم بالمردود الموازي للإنفاق الذي صُرف، ليس فقط عليهم، بل على تعليم جيلٍ كاملٍ من الشباب حتى يبرز من بينهم هذه النخبة من المتفوّقين. ومن بين أمورٍ أخرى، يمكنهم المساهمة مع صناعيين ورجال أعمال في تطوير بلدهم من خلال بناء المصانع فيه، أو القيام بالأبحاث وتطوير المنتجات الجديدة التي يمكن للبنان تصديرها لتشكّل مصدر دخلٍ مفيد لاقتصاده ونموّه.
ولكن لسوء الحظ، لا يحدث أيّ من هذا، إذ في معظم الأحيان يختار الطلّاب المتفوّقون البقاء والعمل في البلاد المُضيفة. ولا يسعنا إلّا أن نشكر هذه البلاد التي عرفت كيف تستفيد من قدرات جيلٍ شابٍّ بأكمله دون أن تنفق قرشاً واحداً على مرحلة تأسيسه، وهنيئاً لها لأنّها توفّر لهم إمكانية النجاح والتفوّق. إنّها عملية مربحة للجانبين، للخريجين اللبنانيين وللدول التي أمّنت لهم ميادين العمل والإنتاج.
 
أمّا الخاسر الأكبر في هذه المعادلة، فهو لبنان الذي يُنفق الكثير في عملية التنشئة وينتج ويصدّر الأدمغة، ويفرغ ويخسر في الوقت نفسه النخب التي تستطيع تحريك عجلة التقدّم والتطوّر فيه، وبالتالي يتراجع أكثر فأكثر.
وعلى الرغم من أنّ هناك لبنانيين استثنائيين ما زالوا موجودين في وطنهم، لكن هذا لا يواسينا حين نفكّر بما قد يكون عليه وضع بلدنا لو عاد إليه الكثير من اللبنانيين المتميّزين المنتشرين في جميع أنحاء العالم، من أجل تطويره وخلق صناعات المستقبل فيه، ورفعه إلى مرتبة علميّة عالميّة متميّزة. أمّا لماذا لا يفعلون ذلك، فذلك لأنّ الاستراتيجية السياسية اللبنانية المعقّدة لم تكن تسير في هذا الاتجاه على الإطلاق، ولسوء الحظ ها نحن نعيش عواقبها الكارثيّة اليوم.
أولى أولويّاتنا حاليّاً يجب أن تكون إنقاذ التعليم في لبنان، خصوصاً مع البداية العشوائية للعام الدراسيّ. أمّا الأولويّة الثانية فهي محاولة تغيير استراتيجيّتنا لبناء مستقبل لبنان من خلال خلق فرص محفّزة لعودة الأدمغة، إذا لم يفت الأوان بعد، وهذا هدف صعب المنال. لكن على جميع الذين يرتقون إلى مستوى التحدّي أن ينهضوا، لأنّ لبنان لا يستطيع الاستمرار في الاستدانة من أجل الإنفاق. هذا هو المخرج الوحيد الممكن للتخلّص من المديونية التي لا منفذ لها ولا جدوى تُرجى.
ومع ذلك، أحذّر هنا من الآمال الزائفة، إذ لا النيّة الحسنة ولا الخطابات، مهما كانت بليغة، يمكن أن تُحدث أدنى تأثير في التنمية الصناعية المبتكرة. إنّ النداءات التي وجّهت في الماضي إلى اللبنانيين في بلاد الاغتراب، الذين لطالما ساعدوا لبنان وساندوه، تُثبت عدم فعاليّة تلك الخطوات في هذا المجال. أمّا أن تقترح الدولة، التي لا تمتلك الوسائل، تطوير الصناعة اللبنانية عبر المطوّلات الإنشائية والخطب الرنّانة، فهذا وهمٌ وكلامٌ طوباويٌّ. إذ لن يُوافق أحد اليوم في غياب الإصلاحات الجديّة على تحويل الأموال إلى المصارف اللبنانية للاستثمار في لبنان، ولن تُوافق الأدمغة والكفاءات اللبنانية على العودة في الوقت الراهن، لأنّ الاستراتيجيّة السياسيّة اللبنانيّة لم تكن تسير على الإطلاق في هذا الاتّجاه. ها نحن، مرّة أخرى، نجدّد النداء لأولئك الذين قبلوا مواجهة التحدّي، بأن يتجنّدوا للعمل، إذ أنّه الأمل الوحيد الباقي للبنان من أجل الخروج من محنته المزمنة.
وما نزيف الطاقات العلميّة وتشتّتها إلّا سبب من الأسباب العديدة التي ساهمت في تدمير لبنان.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم