الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

في رفض فرنسا الاعتذار عن جرائم الاستعمار في شمال أفريقيا!

جزائريون يلوّحون بالعلم الوطني على سطح مبنى في الجزائر العاصمة، احتفالاً بعيد استقلال الجزائر (أرشيفية- أ ف ب / 1 تشرين الثاني 1961).
جزائريون يلوّحون بالعلم الوطني على سطح مبنى في الجزائر العاصمة، احتفالاً بعيد استقلال الجزائر (أرشيفية- أ ف ب / 1 تشرين الثاني 1961).
A+ A-
روعة قاسم
 
عاد الحديث بقوة في الآونة الأخيرة عن جرائم فرنسا في مستعمراتها السابقة في شمال أفريقيا من خلال حدثين مهمين، أولهما عجز الكتل النيابية في البرلمان التونسي منذ أشهر عن الإتفاق على مطالبة فرنسا بالإعتذار عن استعمارها لتونس، وثانيهما صدور تقرير "بنجامين ستورا" الذي كلفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بإعداد تقرير موسع حول مرحلة الاستعمار وكيفية تحقيق المصالحة على ضفتي المتوسط. ولأن الحدثين كانا معزولين ولا رابط يجمع بينهما إلا أنهما تزامنا وفرضا حركية في باريس بخصوص هذا الملف الشائك والحساس الذي يمثل جرحاً غائراً لم ينقطع عن النزف رغم مرور كل هذه السنوات على استقلال مستعمرات فرنسا في أفريقيا.
 
ولعل التوظيف الإعلامي في بلد فولتير لعجز البرلمان التونسي عن الوصول إلى اتفاق بشأن مطالبة فرنسا بالاعتذار عن سنوات الاستعمار، وقلب الحقائق من قبل الإعلام الفرنسي وتصوير الأمر للرأي العام على أنه قبول تونسي باحتلال الفرنسيين لبلادهم من خلال رفض البرلمان التونسي، ممثل الشعب إدانة فرنسا، والتهليل لذلك والدعاية له، يبرز مدى أهمية هذا الملف بالنسبة إلى الفرنسيين الذين يعانون من عقدة في هذا المجال. فكلما قامت باريس بانتقاد بلد ما على انتهاكاته لحقوق الإنسان إلا وتم تذكيرها بماضيها الإستعماري الذي كان دموياً في شمال أفريقيا رداً على شراسة المقاومة التي لاقتها في تلك الربوع من أصحاب الأرض دفاعاً عن أرضهم، وهو ما يسبب لها الكثير من الحرج دولياً خصوصاً وهي بلد الأنوار والثورة الديموقراطية والحريات.
 
والحقيقة أن البرلمان التونسي يضم كتلاً متناقضة في الأفكار والرؤى تعادي بعضها البعض بفعل أحقاد تاريخية، على غرار العداوات بين الدساترة أو الدستوريين (تيار بورقيبة وبن علي) من جهة، وبين الإسلاميين واليسار من جهة أخرى اللذين لم تكن علاقتهما بنظامي بورقيبة وبن علي على أحسن ما يرام. كما أن هناك اختلافات إيديولوجية بين الكتل تتجسد بالعنف المادي واللفظي والإتهامات بالتورط في الإرهاب والاغتيالات السياسية، وذلك على غرار ما هو حاصل بين قوى اليسار من جهة، والتيار "الإخواني" ممثلاً بـ"حركة النهضة" من جهة أخرى.
 
وكلما تقدمت كتلة نيابية بمشروع قرار أو قانون إلا وقامت باقي الكتل بعرقلة مسعاها في إطار مناكفات صبيانية أضرّت كثيراً بالبلد وعطلت عجلة التنمية فيه وجعلته يعاني الأمرّين اقتصادياً واجتماعياً. والغاية من عرقلة الكتل النيابية لبعضها البعض هي إفشال الخصم وإظهاره بمظهر العاجز غير القادر على تحقيق المنجزات للبلد حتى يفشل في الاستحقاقات الانتخابية ويتم كسب النقاط على حسابه.
 
وفي هذا الإطار سقط في البرلمان مشروع القرار الذي طالب فرنسا بالاعتذار عن جرائمها الاستعمارية في تونس، والذي تقدمت به كتلة ائتلاف الكرامة، حيث قامت الكتل الأخرى المتصارعة سياسياً مع الكتلة صاحبة المبادرة بوأد المشروع في المهد، خصوصاً أن نظام البلاد توافقي ويفرض الحصول على عدد مهم جداً من الأصوات للمصادقة على اللائحة. والغريب في الأمر أن كتلة "حركة النهضة الإخوانية" التي هي حليفة لإئتلاف الكرامة، بل إن الأخير يصنف ضمن توابعها، صوتت ضد اللائحة وساهمت في إجهاض المبادرة وهو ما فسره البعض بخشية "إخوان" تونس من تصنيف فرنسا لهم كجماعة إرهابية.
 
وزاد الرئيس قيس سعيد الطين بلة بعدما صرّح في باريس أثناء زيارة رسمية لفرنسا بأن الوجود الفرنسي السابق في تونس لم يكن استعماراً وإنما انتداباً أو حماية كما يسميها البعض، وهو ما أثار حفيظة الرأي العام في تونس الذي انزعج من تصريحات ساكن قرطاج واعتبروه مجاملاً لمضيفيه في الإليزيه. وتعرّض سعيد نتيجة لذلك إلى حملة شرسة في الداخل خصوصاً أن الرجل أستاذ قانون ومن المفروض أن لا تزل به قدمه إلى مثل هذه الأخطاء القانونية التي لا تُغتفر حتى وإن كان الأمر من باب المجاملة لمن أكرموا زيارته.
 
صحيح أن الاستعمار الفرنسي لتونس لم يكن بالشراسة التي كان عليها في الجزائر، وفظاعة الجرائم المرتكبة في الجزائر لا تقارن بتلك التي ارتكبت في تونس، ناهيك بأن الخضراء احتُلت بعد أكثر من نصف قرن من احتلال الجزائر، واستقلت قبل الجزائر بسبع سنوات، لكن الاستعمار يبقى استعماراً في كل الحالات. ففي عام 1881 أطبقت فرنسا على تونس بجيوش جرارة آتية من الجزائر غرباً ومن البحر شرقاً وشمالاً، وتم إجبار ملك البلاد محمد الصادق على إبرام معاهدة باردو التي رسخت الانتداب مع احتفاظ الملك بعرشه. لكن باريس ذهبت بعيداً وأبرمت معاهدة جديدة هي معاهدة المرسى، وذلك بعد سنتين من معاهدة باردو رسخت من خلالها الاستعمار الكامل للبلاد والذي قاومه التونسيون منذ اليوم الأول إلى حين جلاء آخر جندي فرنسي بعد الاستقلال وخسروا أعداداً كبيرة من الشهداء قضوا في معارك التحرير.
 
ورغم كل ذلك فإن فرنسا لا يبدو أنها مستعدة لتقديم اعتذارها في الوقت الراهن لأي من البلدين أو لغيرهما، وهو ما تأكد أكثر بعد صدور تقرير بنجامين ستورا بشأن الجزائر الذي خيب كل الآمال بعد أن بدأ ماكرون في زيارة إلى بلد المليون شهيد مختلفاً عن أسلافه من سكان الإليزيه، وأعطى الانطباع بأنه سائر باتجاه الاعتراف بالجرائم والاعتذار عنها. لكن يبدو أن الرئيس الفرنسي ليس سيد قراره وأن هناك لوبيات ودوائر في باريس فاعلة ومؤثرة في صنع القرار تحول دون تحقيق هذا الأمر خشية على تاريخ فرنسا وصورتها الناصعة التي نجحت في تسويقها باعتبارها موطن فلاسفة الأنوار والمدافعة عن القيم الإنسانية الكونية.
 
كما يبدو أن ماكرون، الذي ندد بالاستعمار باعتباره جريمة ضد الإنسانية، قد اختار أيضاً الشخص الخطأ للاهتمام بهذه المسألة، أي بنجامين ستورا، وذلك بالرغم من أن كل المؤشرات كانت توحي بأنه شخص مناسب باعتباره مؤرخاً ومتخصصاً في تاريخ الجزائر وهو من مواليد مدينة قسنطينة الجزائرية شرق البلاد. وقد ظهر من خلال التقرير المقدم أن ستورا لا يرغب سوى في تطبيع الجزائريين مع الاستعمار ومع أذنابه من الحركيين الذين قاتلوا مع المستعمر ضد أبناء جلدتهم، وتسهيل تنقلهم وتنقل أبنائهم بين فرنسا والجزائر، إضافة إلى العناية بالمقابر الأوروبية ومقابر اليهود والجنود الجزائريين المسلمين الذين قتلوا خلال القتال إلى جانب فرنسا في حربها على الجزائر.
 
وحتى بعض التوصيات المهمة التي تضمنها التقرير على غرار ضرورة اعتراف فرنسا بمعاناة المرحلين الجزائريين إلى كاليدونيا الجديدة وجزيرة سانت مارغريت وإعادة بعض الأرشيف والمخطوطات المنهوبة، يبدو أنها لذر الرماد في العيون وللتغطية على الهدف الأساسي وهو التطبيع مع الاستعمار وجرائمه. كما أن هذه التوصيات الإيجابية تهدف إلى التستر على النوايا الحقيقية، سواء بالنسبة إلى من أعد التقرير أو للدوائر الفاعلة في القرار الباريسي، وهو الرافض القاطع للاعتذار عن الجرائم الإستعمارية.
 
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم