الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

وطنٌ يصرخ... أين قِيَم الله؟

المصدر: "النهار"
تعبيرية (مارك فياض).
تعبيرية (مارك فياض).
A+ A-
محمد عبدالله فضل الله*
 
ممّا يلفت النّظر، تغيّر الشريعة وبقاء الدين واحدًا من خلال خطوطه التأصيلية الكبرى، وأهمّها أساس التوحيد المفترض لو تُرك الإنسان لوحده مع صفاء فطرته وتوقّد ذهنه، لتماهى طبيعيًا مع هذا الأصل، وترتب على ذلك تخلّص من كلّ المقيّدات والمنازعات، ولأضحت المذهبية مستهجنة في ما لو تربّى الوجدان العام على تقبّل الآخر، ولأصبح صوت التلاقي يتفوّق على تراكمات الخطابات والمقاربات الدوغمائية اليابسة التي لم يتوالد منها سوى التقاتل وتأجيج العصبيات وصولًا إلى تكريس حسّ أنانيّ مدمّر للإنسان وبيئته.
 
ستّة قرون بين المسيح عليه السلام ومحمد "ص" لم تكن كافية لتربية هكذا وجدان التفّ حول مصالح، تشابكت عنده أهواء السياسة ومطامع بعض مَن يمثلون الدين، ممّا جعل الأتباع يحيون في جزر معزولة عن بعضهم البعض حينًا، وأحيانًا أخرى جرت عمليات التقاتل والاستباحة تحت مسمّيات دينية؛ والذي ساهم بذلك تصوير العلاقات بين تلك الجماعات على أنها ضديّة لا يمكن الالتقاء بينها.
 
تنامت الطائفيّة على حساب حسّ المواطنة والانفتاح على هوية جامعة، تلتقي إنسانيًا على رفض الظلم والفساد ومواجهة الفاسدين والظالمين.
شريعة الإسلام الأصيلة الصافية في مفاهيمها وتجلياتها هي تأكيد على صفاء المسيحيّة في تعاليمها، التي تحاكي إنسانًا واعيًا، يمتلك جرأة التفكير، ويأبى الخضوع للتجّار والمستغلّين؛ إنه رحيم بنفسه وبالآخرين.
 
ميلاد السيد المسيح إشراقة أملٍ، حفظها الإسلام ومن عرفه بنقاء، وأتباعه الرّهبان المخلصين دورهم كبير في انفتاح الناس على رسول الإسلام في بوادي الصحراء كما استقبال ملك الحبشة النصراني العادل أتباع محمد في إبّان الهجرة؛ وحفظها المسلمون الثوار أيضًا في أشدّ محن المسيحيين أيّام الانشقاقات الكنسية وهجراتهم الأولى إلى لبنان وسوريا، وكان عرضهم ومالهم مصونًا، وأرواحهم تُفدى؛ أطفالهم يتشاركون لقمة واحدة مع أطفال المسلمين؛ فهم الأقرب مودّةً للّذين آمنوا.
 
أرادت المسيحية الحقّة كما الإسلام الحق بلورة وعي وطنيٍّ بعيدًا عن التشنجات ومنطق الحصص والزعامات وتسيّد العصبيّات الحزبية والعائلية، بل كانت هذه المشاعر صادقة عند الطرفين في مراحل وظروف شديدة التعقيد؛ فلماذا اليوم نشهد على حفلات صاخبة من التجييش الطائفي والمناطقي؟! فمتى تُشفى المشاعر المريضة حتى تشفى العقول من ورائها؟
 
علت الحزبية والشخصنة على أيّ شعور وطني، وباتت حبال التواصل مقطوعة، والتراشق بالمسؤوليات هو الحلّ بنظر أصحابه؛ فإذا لم نتوحّد في ظروف كهذه، ونبرز شعورنا الوطنيّ، ويتنازل الجميع عن كبريائه الموهوم، ويتحلّى بالواقعية السياسية وحرية الضمير، فمتى يكون ذلك؟!
 
ولنا أن نتساءل عن الدور الريادي للمسيحيين والمسلمين اليوم في الحفاظ على النهضة وتأكيدها، وفي منع الانهيار الشامل ورفع الارتهان للحسابات الضيّقة، داخليًا وخارجيًا، وتكريس الاستقلال الحقيقي الذي يتمثل في اكتساب المصداقية والتصالح مع النفس، وفق معايير التزام الحق لا غير. فإذا لم ننفع أنفسنا ونبتكر الحلول لمشاكلنا، فلن ينفعنا أحدٌ؛ وتجارب التاريخ تشهد على ذلك.
 
ما لم تبدأ المحاسبة الفعلية، وتفعّل المؤسّسات الرقابية والقضائية، سيبقى واقعنا يتآكل لحساب الفوضى الشاملة، التي تهدّد المسلمين والمسيحيين الذين يدفع فقراؤهم الأثمان الباهظة.
 
أوجاع الناس يتفرّج عليها الجميع بقسوة ووقاحة، حيث جنوح المسؤولين وأشياعهم وتحالف منظومة المال والسياسة إلى تكديس الثروات، ونشر أذاها، من دون اكتراث لما يُصيبنا من معاناة. لقد تخلّى الجميع عن مشاعرهم، وليس من تعقّل يردع نزوعهم للشر.
 
نبّه الرسوليّ المثقف جورج خضر إلى سيئات ما يمكن أن يقع جرّاء عبادة المال والسلطة على صيغة التعايش اللبنانية، لافتًا إلى أن صوت الله الذي يقبع في دواخلنا لا بدّ من إطلاقه والإنصات إليه من أجل إحياء مشتركات غيّبها عنّا الطامعون، حيث نلتقي بقيم الله المغروسة في القلوب النظيفة. يقول سيادته: "لبنان لن يصير شيئاً ما لم يكن شعبه قد صار عظيماً بِتحرُّر الكثيرين من الكذب، ومن عبادة المال والسّلطة والأنا المقيتة العدوّة للشّراكة...كيف نصير إلى هذه الحقيقة؟ يبدأ بقيام كلّ واحدٍ منّا على الكُفْر بالذّات، أي على الكفر بما كُنّا، في جهالاتنا، نعتبره الذات من شهوات المال والسلطة والكذب والانطواء على الأنا الفارغة القاتلة للآخرين. لبنان هو شعبه العظيم، ليس أمجاداً زائفة تقوم على الادّعاء، ولكن في المجد الإلهي القائم في قلب الإنسان الذي يذوق قِيَمَ الله".
 
من جهته، يؤكد السيد محمد حسين فضل الله على أهمية الجانب القيميّ في إحياء التقارب، الذي تمنعه إثارة العصبيات، التي دمّرت الواقع برمّته؛ يقول: "نحن في لبنان استبعدنا التربية القائمة على الجانب القيمي والرّوحي والأخلاقيّ. إنَّ مشكلتنا في لبنان، وخصوصاً في المسار السياسي، أنّنا نعلِّم النّاس كيف يحقد بعضهم على بعض، وكيف يتعصّب بعضهم ضدّ بعض، مع أنّ المسيحيَّة تقول: "إنَّ الله محبّة"، والمسلمون يقولون: "لا يؤمن أحدكم حتّى يحبَّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه، ويكرَه له ما يكره لها"، ولكنَّ الناس من الطرفين اعتادوا على أن يتركوا كلّ هذه التعاليم في المساجد والكنائس. ونحن من خلال هذه العصبية، خرّبنا لبنان الإشعاع الفكريّ، ولبنان الانفتاح والحريَّة، واستبعدنا التربية القائمة على الجانب القيَمي والرّوحي والأخلاقي".
 
فأين نحن من المسيحية والإسلام في توحّدهما وتوحيدهما المنطلق من حفظ الكرامات والحقوق واحترام العقول؟!
 
*باحث وحوزوي
 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم