الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

أخيراً... أصبحت إسرائيل دولة شرق أوسطيّة

المصدر: "النهار"
إسرائيليون يتابعون خطاب زيلينسكي للكنيست عبر شاشة عملاقة في تل أبيب الأحد (أ ف ب).
إسرائيليون يتابعون خطاب زيلينسكي للكنيست عبر شاشة عملاقة في تل أبيب الأحد (أ ف ب).
A+ A-
سمير التقي
 
إنها بلد غولدا مئير، بلد مشحون بالذكريات الأكثر إيلاماً للهولوكوست، ومع ذلك، وصل ارتباك الديبلوماسية الإسرائيلية حول الغزو الروسي لأوكرانيا الى حد البؤس. ومن جديد، حين يتحدى ديكتاتور لا يرحم منظومة السلم الدولي، ليغرق أوكرانيا وبلاده روسيا في مجزرة حمقاء، تتلطى الديبلوماسية الإسرائيلية بالذرائع الأكثر ضيقاً، لتبرر ميوعة موقفها، حتى تجاه القضية المركزية في الوضع الدولي الراهن.
 
وإذ يهرب نفتالي بينيت من مأزقه ليتطوع بالوساطة بين أوكرانيا وروسيا، فإنه لا يكاد يخفي قصوره. إنه يدرك أن بوتين لم يعره أي وزن بين وساطات الكبار، لتكون الوساطة حاجة لبينيت، من دون أن تكون للحظة حاجة لبوتين.
 
أثارت هذه السياسة انتقادات متكررة ومريرة من أوكرانيا، ونالت إسرائيل تحذيراً صريحاً من أقرب حلفائها، الولايات المتحدة: "أنتم لا تريدون أن تصبحوا الملاذ الأخير للأموال القذرة التي تغذي حروب بوتين"، بحسب ما قالت وكيلة وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند في 11 آذار.
 
وبينما يحتفل حلفاء إسرائيل الاستراتيجيون، الولايات المتحدة وأوروبا والأطلسي، من جديد، باستعادة وحدتهم المفقودة، والتي عثروا عليها بفضل بوتين، تنفرد الحكومة الإسرائيلية بالابتعاد عنهم، إذ تُحجم عن تزويد أوكرانيا بالمسيّرات والقبة الحديدية، لتكتفي بتقديم المستشفيات الميدانية.
 
نعم، لقد سبق أن عانت الديبلوماسية الإسرائيلية أعراضاً مماثلة، وحيثما تغلبت عقلية الصفقات العابرة على متطلبات التحالفات الاستراتيجية، ومن جنوب أفريقيا إلى بشار الأسد، كان المنطق "فليأتِ من بعدي الطوفان!". فيما يبقى السؤال دوماً وماذا بعد الطوفان؟
 
هذه العقلية لم تكن قط بهذا المستوى من التناقض المعلن، كما هي الآن. وإذ تفترض الدبلوماسية الإسرائيلية أكثر من ديبلوماسية أي دولة أخرى، أنها تحصّن نفسها بمطالب أخلاقية لتعزيز موقعها في منظومة "الدول المتحضرة"، ترتجف يدها ارتجافاً ميؤوساً، أمام غزو أوكرانيا.
 
كانت أوكرانيا مسرحاً لكل من خطط الإبادة التي وضعها هتلر، وكانت ساحة مظلمة لبرامج ستالين لتجويع الملايين، وعندما يُضرب مبنى مجاور لموقع بابي يار التذكاري بالصواريخ، ترتبك الحكومة الإسرائيلية ارتباكاً عجيباً، حتى وهي تشاهد بعض مواطنيها من أصل أوكراني يقتلون بعدما تطوعوا للقتال عن بلدهم أوكرانيا ضد روسيا. هذا فيما تواصل بعض الصحافة الإسرائيلية الترويج لسياسات بوتين والتشكيك بجدوى العقوبات التي يفرضها حلفاؤها الأميركيون والأوربيون على روسيا، ناسية أن إسرائيل بالذات خاضت وتخوض معركة كبرى في واشنطن من أجل إبقاء العقوبات ضد إيران.
 
فهل تخشى إسرائيل حقاً أن تثير غضب روسيا؟ بل هل يشكل الوجود الروسي في سوريا خطراً استراتيجياً يعيق الأهداف الاستراتيجية، ويسمح بتجاوز ضرورات تحالفاتها التاريخية مع الغرب لمصلحة اعتبارات المجابهة الهجينة لإيران في سوريا؟
 
لا أشتري أبداً فكرة أن الموقف الراهن للحكومة الإسرائيلية هو درء المخاطر الناجمة عن احتمال الاختلاف مع روسيا حول الدور الإيراني في سوريا. كانت ألمانيا تمتلك كل المبررات لمتابعة سياستها التاريخية باحتواء روسيا، عبر تعزيز مصالحها وشراكتها في أوروبا، لكنها انعطفت، أمام فعلة بوتين، لتخوض عن سابق تصميم، أزمة اقتصادية ستدوم أعواماً، وتغامر أيضاً بالاحتكاك مع روسيا عبر دعمها العسكري المباشر لأوكرانيا. بل ها هي سويسرا تنضم الى منظومة العقوبات، والأهم أن فنلندا، والسويد التي تعاني من حدود تمتد لآلاف الكيلومترات مع روسيا، تشارك المخاوف وتتشارك في العقوبات لتلتصق أكثر فأكثر بالجسم العسكري لحلف الأطلسي لردعها.
 
إذاً، حتى لو افترضنا أن لدى إسرائيل حدوداً مشتركة مع روسيا، لا يبدو ذلك ذريعة كافية للاستجابة للابتزاز الروسي الاستراتيجي. فلماذا تخفق الحكومة الإسرائيلية مرة أخرى في ما كانت تحاول الترويج له من دور في النظام الدولي لتفشل في إبرام حجتها السياسية والديبلوماسية؟
 
يخبرنا التاريخ أن العكس كان دوماً هو الصحيح، وأن ثمة خيارات ممكنة أخرى كانت متوافرة لإسرائيل. ففي مواقف مشابهة لم تتردد إسرائيل عن قتل عشرات الجنود من الحلفاء والخصوم. قتلت إسرائيل 34 جندياً أميركياً بقصفها سفينة التجسس ليبرتي في حرب عام 1967، فيما تشير بوضوح مذكرات الطيار الذي نفذ العملية الى أن رابين كان يعرف هوية السفينة. وخلال حرب الاستنزاف خاطرت إسرائيل بقتل 40 جندياً روسياً، وحتى بإسقاط خمس طائرات روسية من أجل حماية قواتها في السويس.
 
إذاً لا بد من أن تكون ثمة عوامل أعمق!
حتى وقت قريب، كان البعض في إسرائيل يعتقدون أن روسيا قد تعمل معهم لدفع إيران إلى الخروج من سوريا. ورغم أن هذه الفرضية خاطئة من أساسها، فإنها حالياً، بعد الحرب على أوكرانيا، وبخاصة بعد اتفاق نووي وشيك مع إيران، فإنه ببساطة غير وارد.
 
وعلى عكس الافتراض النظري بأن روسيا ستمنح الحرية للطيران الإسرائيلي في الأجواء السورية، ستحتاج موسكو لتطوير العلاقات مع طهران ونظام الأسد أكثر من أي وقت مضى، بل يرجح أن تحاول إيران تعزيز وجودها العسكري بالقرب من حدود إسرائيل الشمالية.
 
بل أكثر من ذلك، ترى غالبية الاستراتيجيين العسكريين الإسرائيليين أن سياسة الحرب وبين الحروب، وسياسة جز العشب ضد القوات الإيرانية في سوريا، كانت فاشلةً أصلاً، من حيث كونها تؤجل خطراً يتورم يوماً بعد يوم من جهة، فيما يفشل في تحقيق أي مستوى من توازن الردع.
 
ثم لماذا تساعد روسيا إسرائيل في تصفية الدور الإيراني؟ إنها تعمل، في الإقليم كما في أوروبا، كرجل المطافئ الذي يحترف إشعال الحرائق كي يبقي الحاجة لهيمنته ودوره. إنها سياسة كالمنشار يربح صعوداً مع إيران وهبوطاً مع إسرائيل.
 
ويبدو أن الورطة بالنسبة الى إسرائيل أكبر مما يبدو على السطح. ثمة رأي يقول إن الأوليغارشية الروسية قد نجحت في اختراق النخب الإسرائيلية جوهرياً، بدءاً بليبرمان وحتى نتنياهو وربما لحين. وهذا ما يخاطر بوضع إسرائيل لأمد أطول في الجانب الآخر من الصراع إن استمرت هذه السياسات.
 
حاولت إسرائيل أن تتصرف دوماً على أنها تنتمي الى فضاء خارج منطقة الشرق الأوسط وأهله، لكنها الآن تخاطر بتجريد نفسها من الانتماء الى النادي الأوروبي أو الغربي. فإلى أين تذهب؟
 
إنها إذ تتخذ هذه السياسة وأمام احتدام الصراع، قد تنعطف قريباً نحو سياسة أكثر حزماً من روسيا، ومرة أخرى ترسخ الانطباع بأن سياستها أصبحت تكتيكية وبالمفرق وليس بالجملة، لتعطي الأولوية، كما فعل بوتين، للتكتيك على الاستراتيجية رد فعل على المبادرة الاستراتيجية. بذلك فإنها تتحول لتنتمي عضوياً الى ثقافة الشرق الأوسط. فمرحباً بكم.
 
 
 
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم