الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

سنة على اعتكاف الحريري

المصدر: "النهار"
الحريري يوم علّق عمله السياسي.
الحريري يوم علّق عمله السياسي.
A+ A-
بكر حلاوي

قبل سنة خاطب الرئيس سعد الحريري اللبنانيين معلناً تعليقه عمله السياسي و"تيار المستقبل"، وبعد عام من الخطاب "المرّ" ذات عصر يوم من بيت الوسط، قال الحريري كلمته ومشى تاركاً خلفه أسئلة من دون أجوبة، وتحاليل تبدأ وتنتهي بخواتيم، بعضها تحقق وبعضها خيالي، حول المستقبل القريب والبعيد للرجل وتياره. ولكن، ماذا حدث في العام المنصرم؟ هل أصاب الرجل بتنحّيه المؤقت أم قامر بحياته السياسية؟

بنى سعد الحريري فلسفة تعليق عمله على هذه الجملة: "لا مجال لأي فرصة إيجابية للبنان في ظل النفوذ الإيراني والتخبّط الدولي، والانقسام الوطني واستعار الطائفية واهتراء الدولة". فماذا بقي من البلاد التي تركها الحريري بعد خطابه العاطفي وزيارته الخاطفة في ذكرى والده بعد أيام؟
 

حدثت الانتخابات النيابية في موعدها، وكان أهم اسئلتها من يحّل مكان فراغ الحريري وتيّاره. فأتى الجواب واضحاً للداخل والخارج، بقى الرجل صاحب الوجدان الأكبر في بيئته، وحلّ مكانه بعض مناصريه الذين لم يلتزموا بقراره عدم الترشح للانتخابات النيابية، منتظرين عودته، بعدما وصلوا إلى سدّة البرلمان بزخم أقلّ ممّا كانت أرقامهم عليها في عام ٢٠١٨، كما أثبتت الانتخابات عدم تمّكن من استعاض بغياب الحريري لوراثته من تبوّء مكانه من خارج بيئته، وداخلها. 

استُبدلت بعض ترشيحات المستقبل الكلاسيكية ببعض الطامحين لوراثة كرسي الحريري، ليس فقط مركز رئاسة الحكومة، بل مكانته عند عموم مناصريه. وحده نجيب ميقاتي فهم اللعبة، وعرف أن ليس بالإمكان إكمال طريقه السياسية كما كانت، لأن سعد لم يغادر السياسة لأمرٍ ما في نفسه، فعزف رئيس الحكومة عن خوض الانتخابات، معترفاً بأنّه لم يخضها لمعرفته الظروف والإجراءات القاسية التي تنتظر اللبنانيين في معرض ردِّه على أحد استجوابات الحكومة داخل البرلمان اللبناني. 

في المقلب الآخر، حاولت بعض الشخصيات التي عُرفت تقليدياً بخطّها الأزرق، أن تملأ الفراغ، سعياً منها لتقديم أوراقها للداخل والخارج، فلم تُفلح في الامتحان الديموقراطي، وسجّلت رسوباً كبيراً. هذا الفشل، اقترن أيضاً بمصير الأخ الأكبر لسعد "بهاء"، الذي لم ير اللبنانيون منه إلّا إعلاماً مدفوعاً، وبرنامجاً طموحاً، لم يستطع إيصال أي مرشح لرتبة خاسر أكبر.

داخل بيئة الحريري أيضاً، هناك من استطاع عبور الحاجز الانتخابي، متوّجاً مساراً طويلاً من العداء لسعد وتيّاره، مستغلاً "الفراغ" الذي اقتسمه الأخصام الجدد والقدماء. أحد نواب بيروت، صنع حملة انتخابية توازي حملات رئاسات الدول العظمى بالبذخ والتسويق، معوّلاً أن تنتجه بيروت زعيماً جديداً، لكنّه بالكاد وصل منفرداً، وانضم لاحقاً لتكتل قوامه من خارج العاصمة. آخر تغييري، فرح بأرقام من ظنّوا به مُجدداً، وعرّف عن نفسه بأنه "سعد الحريري" الجديد في بيروت، وصديقه بالتكتل، "ترجّى" الحريري قبل أيام من الانتخابات طالباً مساعدته الانتخابية عبر رسالة عبر الواتساب "لأن المعركة كبيرة"، فلم يردّ الحريري طبعاً، فاز النائب التغييري وانطلق بحملة هجوم على الحريري وتيّاره طيلة اشهر بعد الانتخابات، وهو من كان في ظلاله لأعوام، ناسجاً قصصاً انتخابية عن معارك وهمية ضدّه، قادها الحريري وتيّاره من أجل إسقاطه!

في الشمال، حاول حلفاء الحريري السابقون وراثته، وتقديم أوراق اعتمادهم كرأس حربة اللبنانيين عموماً و"السُنّة" خصوصاً، في وجه "حزب الله" والمشروع الإيراني. فلم ينالوا سوى مقعدين لأشرف ريفي ولائحته بعد فراغ الساحة من الحريري وميقاتي وفراغ مضمون المنافسين-المستقبليين سابقاً، كما بمساعدة أموال "معراب" الهائلة.
 
الحريري أمام ضريح والده.

الأمر نفسه حدث في البقاع وصيدا وجبل لبنان، وجوه جديدة-قديمة وصلت لقبّة البرلمان، ورسبت معظمها في العديد من الاستحقاقات السياسية، فبقيت البلاد تعيش تحت تأثير كبير للمحور الممانع، وأصبح المشهد السياسي شبيهاً بالعراق، حيث المعركة السياسية بين الأقطاب الشيعية حصراً. أمّا في لبنان، فهو بين أقطاب المحور المناصر لإيران حسابياً، في ظّل ترنّح الأطراف الباقية التي ظنّ بعضها أنها الأكثرية الجديدة لمدة أيام معدودات، قبل أن يعترف "السياديّون" و"التغييريون" بأنهم معارضة، حتى إنهم بعيدون عن سد الهوّة الكبيرة بينهم.

يكاد الحريري يضحك عند سماع ما وعد به المرشحون قبل الانتخابات النيابية، وما حدث بعدها، هو الضحك المبكي بحق ما حدث للبنانيين خلال العام الماضي. فوعود الإصلاح الكهربائي والمالي والتقدّم الاقتصادي كلها كانت صوتاً على منبر، فلم تأتِ الكهرباء وفرغت الدولة وتضاعف حجم انهيار الليرة أمام الدولار. 

خارجياً، أصاب الحريري بعبارة "التخبّط الدولي"، وهذا بعد لم تكن الحرب حلّت في أوكرانيا. فأصبح لبنان متذيّلاً سلم الاهتمام الدولي، وعاقداً الأمل على اجتماع رباعي قد يحضره مساعدون لوزارات الخارجية في بلدان صاحبة النفوذ. هذا الخارج، فقد الأمل في مقدرة الساسة جميعاً على البدء بالحل لمشاكل لبنان، وأصبح يهتم فقط بأزمة البلاد الإنسانية لعدم تحّول "سويسرا الشرق" الى مرتعٍ جديدٍ للإرهابيين أو الراغبين بالهروب من جحيمه بقوارب الموت. 

أمّا الطائفيّة، فأصبحت الشغل الشاغل لبعض القوى السياسية والمراجع الروحية. كما باتت أهم من أمور الناس الملحّة التي قد تستدعي "جلسة" رفع عتب لمجلس الوزراء. فيشعر بعض اللبنانيين بالخوف على الصلاحيات، بينما شبابهم أصبح معظمهم في الهجرة أو طالبين لها. الكلام الطائفي وصل الى حد المجاهرة بطلب "تغيير الصيغة" الحالية، ناسفاً قائلها ماذا فعل الساسة إبّان الحرب الأهلية وكم دفع اللبنانيون من أرواحهم وثرواتهم حينها.

تحدث الحريري عن ترنّحٍ لهيكل الدولة حينها. لم يكن يدري سعد أن يحدث أسوأ ونصل الى شبه فراغ في الدولة، من رأس الهرم الى كل الإدارات العامة والأسلاك العسكرية. لحق باعتكاف الحريري كل موظفي الدولة تقريباً، وأصبح القضاء شاغراً من قضاياه وعدالته، وبات القضاء الخارجي-الأوروبي يرسل ببعثات للتحقيق عن قُرب للمرة الأولى ببعض القضايا المرفوعة في الدول الأوروبية، بعد استحالة تحريك أي ملف محلياً. مرافق الدولة كلّها معطّلة، أو "تجود بالموجود"، فالمطار مكتظ وخدماته سيئة عند الذروة لتدني عديد الأمنيين والموظفين، والمرفأ الجريح يشهد على إكمال الفساد الجمركي تحت راية الخط الأخضر والتهرّب الضريبي، ولا ينسى توقّف العمل بقضية تفجيره منذ أشهر طويلة تحت ذريعة التسييس ونظرية المؤامرة التي لا تفارق أحداً من مسؤولي البلاد.
 
الحريري مغادراً بيت الوسط.

كثيرون من ألقوا اللوم على سعد لعدم "التدخل الإيجابي" في الانتخابات، من مستقبليّين سابقين وحلفاء تاريخيّين. المستقبليّون حمّلوا هزيمتهم للحريري وماكيناته التي عملت ضدهم بشكل "دونكيشوتي" لا يفهمه أحد غيرهم، وتبقى مشكلة نائب الحريري السابق في تيار المستقبل، وشركائه، أن سعد لم يُجب على اتصالاتهم قبل الاستحقاق. حلفاء الحريري التاريخيّون، طالبوه بالتدّخل كي لا يصل ممانعون في جبل لبنان، وعندما لم تصل أي رسالة بالمقابل من رئيس المستقبل، عكفوا عنه وفهموا أن الرجل لم يكن يستهزئ عندما قرّر المغادرة، فأصبحوا يتناسونه كأنّه لم يكن ركيزتهم الأساسية في كل الاستحقاقات خلال ١٧ عاماً.

ماذا كان سيفعل الحريري لو لم يكن معتكفاً؟ سيناريو افتراضي غير واقعي، ولكن هل كان سينتخب ميشال معوّض؟ أم يسعى للتسوية مع فريق الثامن من آذار؟ إن انتخب معوّض كان سيكون للمرشح الاكثرية تستوجب تعطيلاً مقابلاً مشابهاً لما كان عام ٢٠١٤ عليه، وإن ساوم مع الفريق الآخر، كان سيتحمّل مسؤولية التسوية كلّها حتى لو كان آخر راكبيها كما عام ٢٠١٦، فالتسوية وقتها حُرمت على الحريري وحُللت "للقوات" التي تسعى لتكون رائدة التسوية مقابل "حزب الله" الآن. في الحالتين الجواب الأكيد أننا كنا سنبقى بالفراغ لانعدام العمل السياسي الديموقراطي الطبيعي في هذا الاستحقاق.

الحريري الآن يقضي معظم أوقاته في ابو ظبي، مرتاح الضمير وغير مرتاح البال لما آلت إليه الأمور في بلده الأم. حافظ سعد على أسس حالته الوطنية التي ورثها عن والده، واستمر بتقديم يد العون لآلاف المحتاجين الذين زاد عوزهم الحياتي عموماً، والغذائي والصحي والتربوي خاصّة، ويرفض الرجل ذكر الموضوع ضمن أي أخبار إعلامية، عملاً بطريقة عمله ووالده منذ الثمانينيات، وكي لا يصوّر للجميع أن "سعد راجع" - في المعنى السياسي، فهو مرتاح الضمير أنّه لم يكمل المسرحية السيئة في الملعب اللبناني السياسي، تاركاً كل أبطاله خلفه. والظروف الداخلية باقية مترنّحة مسلّمة للفشل، بانتظار تحرّك خارجي يجبرهم على شيء ما غير "ترسيم الحدود".

يخاف مناصرو الحريري أن تكون تجربة سعد مشابهة لما حلّ بالزعامات المسيحية في مطلع التسعينيات. لا يهم هؤلاء ما يحدث دولياً، ولا يعرفون سوى أن سعد أصبح مغيّباً عن يومياتهم بعدما اعتادوا عليه وووالده لمدة ٣٠ سنة. المعادلة التي رسمها الحريري لنفسه واضحة، لا عودة للحياة السياسية في لبنان إلا عندما يقدر على تحقيق الركيزتين الأساسيتين للحريرية السياسية: منع الحرب الأهلية، وتحقيق حياة أفضل للبنانيين؛ الأولى تحققت والثانية تصبح بعيدة شيئاً فشيئاً بدون أي بقعة ضوء.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم