الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

عن الرفيق ستالين، بيّ الكل

المصدر: "النهار"
ستالين.
ستالين.
A+ A-
كتب إيلي حداد
 
استرعى إنتباهي، وأنا أشاهد حلقة ممتعة على قناة "كل التاريخ" الفرنسية منذ بضعة ايام، حول الصراع بين مفكّر الثورة ليون تروتسكي و"البلطجي" جوزف ستالين، الذي أفضى الى انتصار الاخير وتربعه على عرش الامبراطورية الجديدة، أن ستالين، بعد تتويجه قيصراً جديداً، باشر حملة دعائية واسعة لتثبيت شرعيته ومنها إعطاؤه لقب "أبي الشعب"، أي بلهجتنا العامية اللبنانية "بيّ الكل".
 
 
بالطبع، لم تكن استراتجية ستالين مختلفة عن اتجاه أدولف هتلر في الوصول الى السلطة وتثبيت موقعه وإطلاق جهاز البروباغندا لإظهاره بمظهر القائد الحكيم والزعيم الأوحد. لكن المعلوم أن ستالين تميّز عن هتلر بتخوين معظم أعضاء المكتب السياسي من البلاشفة الأول رفاق لينين ورفاقه ومحاكمتهم وصولاً الى إعدامهم، وبالتالي إستبدالهم بعناصر شابة تكون أكثر طاعة له، ولا تحمل معها تاريخها النضالي المنافس للزعيم. من هذا المنطلق خوّن ايضاً تروتسكي الذي كان يحظى بإعجاب الأب المؤسس فلاديمير لينين، وطرده من الحزب ونفاه الى الخارج، ومن ثم أرسل أحد العملاء لإغتياله في منفاه المكسيكي.
 
 
الدعاية الستالينية أرست الصورة الرسمية للزعيم القائد بعد اعتلائه سدة السلطة، فجمعت بين المظهر الفولاذي ـ وستالين هو لقب أعطي له ويعني الرجل الحديدي ـ وبين الإنسان القريب من الشعب الذي يظهر في العديد من المنشورات الدعائية بمظهر الأب العطوف. جمعت آنيتا بيش في كتابها "مظاهر العبادة الشخصية لستالين من خلال المنشورات الترويجية 1929 ـ 1953" العديد من هذه الصور التي يظهر في بعضها بمظهر الأب الحنون، أبي الشعب الساهر على مصلحتهم وخيرهم. من المعروف أن لقب "أبي الشعب" كان يعود في التاريخ الروسي الى القيصر، لكن ستالين لم يجد إحراجاً في إعادة استعمال هذا اللقب. تقول آنيتا بيش في معرض تعليقها على العبادة الشخصية للزعيم، إن الدول التي تواجه أزمات وجودية، أو مصاعب إقتصادية أو إجتماعية، غالباً ما تواجه هذه الأزمات من خلال تثبيت شرعية ورمزية زعمائها بـ"عبادة الزعيم" أو "The cult of personality". عبادة الزعيم إذاً هي محاولة لإرساء نقطة مرجعية لمنظومة عقائدية متكاملة، ترتكز على الشخص الذي يجسّد هذه العقيدة، فيتحوّل هذا الانسان بالتالي الى تشخيص لفكرة الوطن، الى شبه الإله، الى مخلّص.
 
من هنا تأخذ عملية تظهير صورة الزعيم شكل منهج منظّم يخضع للقوانين والارشادات الحزبية، وهذا ما يفسّر تحوّل صورة ستالين عبر الاعوام من القائد الصارم الى الأب العطوف الذي يسهر على راحة شعبه وسلامته. هكذا ظهرت مجموعة من المنشورات تحمل صورة الزعيم مختلطاً بالأطفال، وأحياناً رافعاً فتاة صغيرة الى مستواه كي يتأملها ويعطيها ابتسامة الحب الأبوي. أتت هذه المنشورات ضمن حملات ترويجية تحت عنوان "الطفولة السعيدة" التي ظهرت أيضاً على جدران المدارس وصفحات الكتب والمجلات. في إحدى هذه الصور التي تحمل عنوان "شكراً للرفيق ستالين على طفولتنا السعيدة" (1938)، يظهر الأطفال أمام شجرة الميلاد، التي كانت قد مُنعت منذ العام 1917، لكنها عادت الى الظهور في العام 1935. لم يقتصر تمجيد ستالين كأب للشعب، على الإتحاد السوفياتي، بل امتدّ ايضاً الى البلدان الاشتراكية والى الأحزاب الشيوعية في البلدان الأخرى. للمفارقة، أذكر قصة كان يتداولها الناس في المصيطبة، حيث كنا نقطن قبل الحرب، عن أحد الشيوعيين في "المحّلة" الذي كان يردد: "زينو بالذهب زينو/ يعيش بابا ستالينو".
 
إن إعطاء توصيف الأب الى رئيس البلاد، أو الى زعيم ما، يأتي في معظم الأحوال كنتيجة لتركيبة عقائدية (ideological construct) بالاتفاق بين الزعيم والجهاز الدعائي للحزب الحاكم أو للمجموعة المحيطة به. إلا أنه أحياناً، وكما حصل هنا في لبنان، يأتي كتعبير عفوي من مجموعة مأزومة تنظر الى هذا الشخص كخشبة خلاص من أزمتها الوجودية أو الاقتصادية. وهنا تكمن معضلة أكبر، إذ يعترف الشعب في حالة كهذه بقصره وفقدانه لمفهوم المواطنة، بحيث يضع كل آماله في شخص ما، وليس في منظومة الحكم العادل. وكما أشارت حليمة القعقور في مقالة لها "عبارة بيّ الكل إهانة لأسس الدولة الحديثة" (النهار 22 حزيران 2020) أن عبارة "بيّ الكل" هي بالفعل إهانة لمفهوم المواطنة في الدولة الحديثة. 
 
 
ليست فقط المشكلة في العبارة هذه، بل في مفهوم "الزعيم" أو "القائد ـ المعلم" التي انبثقت من ديكتاتوريات مختلفة، من أقصى اليمين الى أقصى اليسار، وانتشرت بصورة لافتة في العالم العربي، حيث أفرز كل بلد عربي زعيمه الملهم، وقائده "الى الأبد" الذي يخوّل نفسه أحياناً حرق البلاد في سبيل الحفاظ على "هالته" وكيانه ومكتسباته ومنظومته السياسية والاقتصادية. أما في لبنان، فإن تعدد الطوائف (أو القبائل) أدّى الى تعدد الزعماء، بحيث أصبحوا أركاناً شرعيين في السلطة تتم دعوتهم الى طاولات حوار وطنية، حتى لو لم يكونوا منتخبين من الشعب، أو يحملون أية صفة رسمية. هنا تجدر الإشارة الى أن صورة الزعيم كأب ومرشد لجماعته ترتبط الى حدّ بعيد بدعم معنوي من "الأب الروحي" لكل طائفة. فالأب الروحي هو الوجه الآخر من المعادلة في لبنان، وهذا ما يفسّر الى حد بعيد رفض الأب الروحي، أكان مفتيا أم بطريركا أم مطرانا، رفع الغطاء الشرعي عن الزعيم حتى عندما تتطلب مصلحة الدولة العليا ذلك.
 
 
إن "العبور الى الدولة" يتطلب تخطي حواجز عدة، نفسية ومعنوية، أحدها إسقاط "هالة" الزعيم عن أولئك السياسيين وإسقاط رموزهم وصورهم من القلوب وبعدها من على جدران المدينة. إن مفهوم الدولة يقتضي أن يتحوّل المواطن الى المراقب الفعلي والمحاسب لأعمال السياسيين، وليس الى تابع لزعيم تعجز المنظومة السياسية عن محاسبته لأنه فوق الشبهات وفوق المحاسبة. لا يمكن أن تقوم دولة في لبنان إن لم يسقط هذا القناع الذي يتمسك به الشعب أحياناً أكثر من زعمائه.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم